منهج الإخوان المسلمين في التغيير والإصلاح
بقلم: د. محمود غزلان ** عضو مكتب الإرشاد
رغم أن جماعة الإخوان المسلمين تشرح للناس منذ إنشائها وحتى الآن أهدافها ومنهاجها ووسائلها بلسان الحال ولسان المقال؛ فإنه يبدو أن هناك عددًا غير قليل من الشعب المصري لم تصلهم دعوتها، ولم يعرفوا حقيقتها، أو أثرت فيهم دعاوى الكذب والافتراء للعهد البائد عشرات السنين، وللذين يبحثون عن الحقيقة بإخلاص، والصواب بصدق؛ نوضِّح لهم من نحن وماذا نريد؟
وقبل أن ندخل في الموضوع نود أن نقرر جملة من الحقائق:
أولاها: أن مصر دولة إسلامية؛ لأن 94% من سكانها مسلمون، ولأن حضارتها وثقافتها وأعرافها وتقاليدها وعاداتها مستمدة من الإسلام منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان، ولأن دستورها ينص على أن مصر دولة دينها الرسمي الإسلام، ولأنها من الدول المؤسسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ولمن لا يعرف فإن دستور سنة 1923م، صاغته لجنة سُميت لجنة الثلاثين؛ لأنها تكونت من 30 عضوًا، إضافة إلى الرئيس ونائبه أي 32 شخصًا، منهم 5 من الأقباط، أحدهم الأنبا يؤانس نائب البطريرك في ذلك الوقت، ثم أصبح بطريركًا للأقباط الأرثوذكس (أي البابا) بعد ذلك، إضافة إلى شخص يهودي، ولم يكن فيهم إلا ثلاثة من ذوي التوجه الإسلامي، والباقون كانوا من العلمانيين.
اجتمعت لجنة مصغرة منهم مكونة من 16 شخصًا لوضع القواعد الأساسية للدستور، فاقترح أحدهم نص المادة التي تقول إن مصر دولة دينها الرسمي الإسلام واللغة العربية لغتها الرسمية، فتمت الموافقة عليها بالإجماع، ثم عرضت القواعد بما فيها هذه المادة على اللجنة مكتملة؛ فكانت الموافقة بالإجماع، وبعد اكتمال نصوص الدستور عرضت كلها على اللجنة مكتملة فوافقت عليها بالإجماع مرة أخرى.
ثم جاء دستور سنة 1971م وأضاف إلى النص المتعلق بدين الدولة ولغتها الرسمية، أضاف النص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، ثم تمَّ تعديله إلى المصدر الرئيسي للتشريع، ولم يكن ذلك من فراغ، فلم يكن هناك مطلب شبه مجمع عليه من اللجان التي كانت تجوب البلاد للاستماع لرأي الشعب ومطالبه بخصوص الدستور، وذلك قبل كتابته مثلما كان مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية.
وفي ذلك قال السيد حافظ بدوي، رئيس مجلس الشعب الأسبق، في كلمة ألقاها في مجلس الشعب ونشرت في ملحق رقم (19) مضبطة الجلسة السبعين، قال ما نصه (أيها الإخوة.. إن الذي نبحثه الآن ليس أمرًا عاديًّا، ولكنه أمر يجب أن نحتفي به، لأنه أمل كبير لشعبنا، ولأنه أمنية غالية لكل فرد في بلدنا، وإنني أذكر في سنة 1971م إبان وضع مشروع الدستور الدائم، وكنا نجول في كل قرية من قرانا، وفي كل مدينة من مدننا، وفي كل مجتمع من مجتمعاتنا، وفي كل جامعة من جامعاتنا، أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًّا لتشريعاتنا، ومن أجل ذلك نصت المادة الثانية من دستور سنة 1971م على أن "الإسلام دين الدولة الرسمي، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، ثم عدلت المادة في استفتاء شعبي لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور جابر جاد نصار، أستاذ القانون الدستوري بحقوق القاهرة، في كتابه (الوسيط في القانون الدستوري) تعليقًا على اشتراط قانون تأسيس الأحزاب السابق عدم تعارض مقومات الحزب مع مبادئ الشريعة الإسلامية ما نصه "وإذا كان من المنطقي النص على ضرورة تقيد الحزب في مبادئه وأهدافه وممارسته لنشاطه بمبادئ الشريعة الإسلامية، وذلك باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، باعتبار أن الدستور قد نص على ذلك في المادة الثانية منه، وباعتبار أن هذه الشريعة تنبثق عن الدين الإسلامي الذي يضع تصورًا عامًّا يحكم حركة المجتمع ونشاطه، وذلك من منطلق أن الإسلام دين الدولة ......".
والدولة بطبيعتها شخصية اعتبارية لا تصلي ولا تصوم، ومن ثم لا يكون معنى النص على أن دينها الإسلام وشريعته المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أن تكون مرجعية الدولة في مواقفها وسياساتها وتشريعاتها مستمدة من الإسلام وشريعته، وإلا كان النص لغوًا لا قيمة له، ويتنزه عن ذلك العقلاء، ناهيك عن الغالبية العظمى للشعب المصري.
إذًا فمصر دولة إسلامية بمقتضى العقيدة الغالبة والواقع البشري والتاريخ والدستور، وهذا أيضًا ما تقره الديمقراطية لأنه إرادة الشعب.
ثانيتها: أن الإسلام بطبيعته دين شامل ينتظم شئون الحياة كلها بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع وبالنسبة للحكومة وبالنسبة للدولة، فأحكام الإسلام تنقسم إلى الأقسام التالية:
1.أحكام العقيدة الإسلامية، وهي أمور تتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وغيرها من أمور الاعتقاد.
2.أحكام الأخلاق، وهي المتعلقة بما يجب أن يتحلى به المسلم، وما يجب أن يتخلَّى عنه كوجوب الصدق والأمانة وحرمة الكذب والخيانة.
3.أحكام تتعلق بتنظيم علاقة الإنسان بخالقه كالصلاة والصيام وغيرها من العبادات.
4.أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وهذه على أنواع:
أ- أحكام الأسرة من نكاح وطلاق وإرث ونفقة.. إلخ، وتسمى في الاصطلاح الحديث أحكام الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية.
ب- أحكام تتعلق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم كالبيع والشراء والإجارة والرهن والكفالة.. إلخ، وهذه تسمى في الاصطلاح الحديث القانون المدني.
ج- أحكام تتعلق بالقضاء والدعوى وأصول الحكم والشهادة واليمين والبينات، وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات.
د- أحكام تتعلق بمعاملات الأجانب غير المسلمين عند دخولهم إلى إقليم الدولة الإسلامية، والحقوق التي يتمتعون بها، والتكاليف التي يلتزمون بها، وهذه الأحكام تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي الخاص.
هـ- أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في السلم والحرب، وتدخل فيما يُسمى اليوم بالقانون الدولي العام.
و- أحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدولة وشكل الحكومة، وعلاقات الأفراد بها، وحقوقهم إزاءها، وهي تدخل فيما يُسمى الآن بالقانون الدستوري.
ز- أحكام تتعلق بموارد الدولة الإسلامية ومصارفها، وتنظيم العلاقات المالية بين الأفراد والدولة، وبين الأغنياء والفقراء، وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه.
ح- أحكام تتعلق بتحديد علاقة الفرد بالدولة من جهة الأفعال المنهي عنها "الجرائم ومقدار عقوبة كل جريمة"، وهذه تدخل فيما يسمى بالقانون الجنائي، ويلحق بها الإجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وإنزال العقوبات بالمجرمين وكيفية تنفيذها، وهي تدخل فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات الجزائية.
ثالثتها: أن هذه التشريعات رغم شمولها إلا أنها تتصف بالثبات والمرونة في نفس الوقت، الثبات في الأحكام التي لا تتغير؛ لأنها ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة وهي قليلة، والمرونة في الأحكام التي ثبتت بنصوص، إما ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت والدلالة معًا، أو الأمور المسكوت عنها تمامًا، والتي يسميها العلماء بمنطقة العفو أو الفراغ التشريعي، والنوعان الأخيران يمثلان الجانب الأكبر من الشريعة، والذي يحتاج إلى اجتهاد لسن التشريعات فيه، ثم إنه أيضًا من مظاهر مرونة الشريعة أن الأحكام في هذا المجال تتغير بتغير الزمان والمكان والحال.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم تحت عنوان "تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال" ما نصه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل".
رابعتها: أن هذه الشريعة تحترم حقوق غير المسلمين، وتحفظ حرياتهم، وتقر لهم حرية العقيدة والعبادة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: من الآية 256)، بل تدفع المسلمين للدفاع عن دور عبادتهم (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية 40)، وأمرت بمعاملتهم أحسن ما تكون المعاملة (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: من الآية 8)، وتحذِّر أشد التحذير من ظلمهم، جاء في الحديث الشريف "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة"، كما أنها أقرتهم على التحاكم إلى شريعتهم في خصوصياتهم الدينية، ولذلك رأينا البابا شنودة يطالب منذ عدة أشهر بتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم؛ حيث قالت الشريعة دعوهم وما يدينون به، وذلك في قضية طلاق المسيحي لزوجته المسيحية، كما أقرت الشريعة مبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
في ضوء هذه المبادئ أو الحقائق، فلقد انتهج الإخوان المسلمون نهجهم في الإصلاح والتغيير، متأسين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، يربي الرجال، ويؤسس العُمد، ويغير النفوس، ويُعنى بالجوهر قبل المظهر حتى إذا اكتمل له جيل فريد يعتمد عليه هاجر إلى المدينة وأقام الدولة وباشر كل مظاهر السياسة، فحكم الناس وعقد المعاهدات وخاطب الملوك وفاوض زعماء القبائل وأرسل الرسل وقاد الجيوش وخاض الحروب، ومارس التشريع والقضاء بما يوحى إليه، وعاقب المجرمين وتعهَّد المحتاجين، ووسع حدود الدولة حتى شملت جزيرة العرب، فعل ذلك كله في عشرة أعوام فقط، وترك من بعده خلفاء ساروا على نهجه فيما عدا التشريع والقضاء لانقطاع الوحي، ولتكليف شخص بالقضاء غير الحاكم، واعتمادهم في التشريع على أهل الحل والعقد، وكان هذا أساس الفصل بين السلطات.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قيمة التربية وبناء الرجال كقيمة ثم التدرج في الإصلاح كقيمة وصدق شوقي حين قال:
داويت متئدًا وداووا طفرة وأخف من بعض الدواء الداء
وهذا المنهج تلخصه السيدة عائشة رضي الله عنها في قولها: "إن أول ما نزل من القرآن آي من المفصل- أي السور القصيرة- فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى إيمان نزل أمره تعالى، لا تشربوا الخمر، ولا تقربوا الزنا، ولو كان أول ما نُزل لا تشربوا الخمر ولا تقربوا الزنا؛ لقالوا والله لا ندعهما أبدًا".
لذلك يعني الإخوان المسلمون بقضية التربية والتزكية التي ظل النبي صلى الله عليه وسلم يمارسها مع نفسه وأصحابه، حتى انتقل إلى ربه، وهذه التربية تبدأ أولاً بالعقيدة في الله؛ ليوقن المرء أن له خالقًا رازقًا كريمًا حليمًا واهبًا، فيحبه ويرجوه، وأنه تعالى سميع بصير خبير رقيب محيط، فيراقبه وأنه حسيب حكم عدل، وأن هناك يومًا سيرجع المرء فيه إلى ربه فيحاسبه، إما ثوابًا وإما عقابًا فيخشاه ويتقيه، وأنه أنزل إليه قرآنًا فيه الهداية وفيه المنهاج فيلتزم بما فيه.. إلى آخر أبواب العقيدة.
-ثم يأتي دور العبادة ليتصل العبد بالله عدة مرات، كل يوم، وكل أسبوع، وكل عام؛ ليظل القلب حيًّا والضمير يقظًا.
-ثم يأتي دور الأخلاق ليتمثل مكارمها ويتجنب سيئها، فتتوطد العلاقات الأخوية بين الناس.
-وتقوم التصورات الإسلامية في الكون والإنسان والحياة والمال، فتصلح النظرة، وتعتدل القيم، ويستقيم الميزان والسلوك.
-ثم يعمد الإخوان إلى تصحيح الفهم للإسلام الوسطي المعتدل، وفق الأصول العشرين التي قرَّرها الإمام البنا، وأقرها علماء الأزهر الشريف وغيرهم من العلماء.
-ويعني الإخوان بتكوين الأسرة المسلمة التي يتعاون الرجل والمرأة فيها على إقامة حياة طيبة قائمة على المودة والاحترام وتكامل الأدوار وإنشاء جيل سليم.
وكما يهتم الإخوان المسلمون بإصلاح الأخلاق، فإنهم يولون اهتمامًا فائقًا بالإصلاح السياسي والدستوري والقانوني، وكفالة الحريات العامة وحقوق الإنسان، كل الإنسان في الحياة والكرامة الإنسانية وحرمة مسكنه، وحرية العقيدة والعبادة والرأي وحقه في العلم وحقه في إدارة شئون الدولة والانتخاب والترشيح وتولي الوظائف العامة، وحقه في التجمع وتكوين الأحزاب وتداول السلطة والتظاهر السلمي.
-وكذلك الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، بالتأكيد على حق العمل والتملك والتنقل، وتكوين أسرة والسكن والعلاج والكفالة الاجتماعية.
هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية، فهم يسعون إلى خوض غمار السياسة بحسابات معينة، فشرعوا في إنشاء حزب، يمثِّل مبادئهم، وقرروا عدم ترشيح أحدهم أو تأييد أحدهم في الترشيح للرئاسة، وكذلك عدم السعي للحصول على أغلبية في المجالس النيابية؛ إفساحًا للقوى الوطنية الأخرى، ورغبة في محو الصورة الذهنية السيئة والمخيفة التي روَّج لها النظام البائد، ولا يزال للأسف العلمانيون ينشرونها في أجهزة الإعلام حتى اليوم على غير الحق والحقيقة، وكذلك الإعلام الخارجي، كما أنهم يباشرون من خلال الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني تقديم الخدمات للناس بمختلف أنواعها التعليمية والصحية والمعيشية وغيرها، باعتبار ذلك واجبًا شرعيًا "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، إضافة إلى الأنشطة النقابية لمصلحة أصحاب المهن المختلفة؛ لأن الإخوان يعتبرون أنفسهم خدمًا لهذا الشعب.
كما يسعون لرفع مستوى وعي أفراد الشعب، وبث مشاعر الولاء والانتماء فيهم، والإحساس بالمسئولية الفردية والجماعية، وفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة؛ من أجل التصدي للفساد والاستبداد، في إطار القانون والحض على الخير بإتقان العمل، ورفع مستوى التعليم والصحة، والإبداع والابتكار وزيادة الإنتاج وتقليل الاستهلاك حتى تتبوأ مصر مكانتها التي تليق بها.
هذا باختصار منهجنا الذي نسعى به للتغيير والإصلاح، وقد أثار البعض قضية الحدود في الإسلام، واتخذها ذريعة للتشويه والإساءة ولشرح هذه القضية نقول:
إن الإسلام كما أسلفنا يمتلك منظومة كاملة لإصلاح المجتمع وإداراته وتقدمه، تبدأ بالعقيدة والعبادة، وتنتهي بالعقوبات والجزاء.
وكما قيل من قبل فإن آخر الدواء الكي، وتأتي العقوبات في آخر منهاج الإسلام؛ لأن الإنسان عندما يبني بيتًا، لا يبدأ بالدور العاشر ثم التاسع وهكذا، ولكن يبدأ بالأساس ثم الدور الأول فالثاني وهكذا...، ومنهج الإسلام يتعامل مع أصحاب الفطر السليمة والطباع المستقيمة بوسائل التوجيه والنصيحة والإرشاد، بيد أن في كل مجتمع قلة منكوسة الفطرة معوجة الطبع، لا يصلح معها هذا الأسلوب، لذلك كان لا بد من أسلوب عقابي، وهذا القانون الجنائي موجود في كل دولة من الدول.
-وقديمًا قال الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"؛
-لذلك شرع الله تعالى الحدود حتى تحول بين الناس وبين أن يقعوا في الجرائم المهددة للأفراد ولاستقرار المجتمع؛ فإن الإنسان إذا رأى في الجريمة نفعًا له وهمّ بارتكابها، فإن شبح العقاب المرعب يردعه عنها، ترجيحًا لدفع أذى العقاب على ما يتصوره من منفعة له في الإجرام، وحتى إذا طوعت له نفسه ارتكاب الجريمة، فإن إيقاع العقاب عليه يمنعه من العود إليها، كما يزجر الآخرين عن ارتكابها لئلا يصيبهم ما أصابه؛ لذلك يقول بعض العلماء في العقوبات "إنها موانع قبل الفعل، زواجر بعده"، وبذلك تحفظ مصالح الأفراد المتعلقة بالضرورات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والمال، وتحفظ مصالح المجتمع ويأمن الاختلال.
كما أن توقيع العقوبات على مرتكبيها، إنما تطهرهم من إثمها يوم القيامة، لذلك رأينا ما يصعب تصوره، حينما ذهب رجل يسمى (ماعزا) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يطلب منه أن يطهره، ويقر أمامه أنه اقترف جريمة الزنا، فيعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيصر على إقراره، فيقول له النبي "لعلك قبلت"، ويحاول أن يصرفه فيعاود الإقرار بالزنا، فيقول له النبي "لعلك فاخذت"، ويزداد إصراره على الإقرار، فيأمر النبي الصحابة أن يشموا فمه فلعله سكران، فلم يجدوا فيه رائحة الخمر، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مناصًا من إقامة الحد عليه، وتكرر الأمر مع المرأة التي زنى بها، إذ جاءت مختارة من تلقاء نفسها.. إلى آخر القصة.
-وهي تدل على أمور:
الأول: أن ثمرة التربية هي يقظة الضمير، فإذا غفل لحظة تحت تأثير شهوة ما، فإنه سرعان ما يتوب ويطلب التطهير ولو كان فيه موته، وكذلك نفس الحال مع الغامدية التي جاءت فاعترفت بذنبها للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعلم أن الحدود جوابر أي تجبر الذنب، فلا يعاقب عليه العبد في الآخرة، وقالت له طهرني يا رسول الله فقد زنيت، فراجعها لمدة سنتين تقريبًا حتى تمَّ فطام ابنها من الزنا، فلما رآها مصرة صادقة أقام عليها الحد.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يلتمس لهما الأعذار، ويوجد لهما المخارج حتى ينصرفا، وهذا يدل على أن الشريعة ليست متعطشة للبطش بالمخطئين، وإنما تسعى لردعهم وتفضل توبتهم.
الثالث: أن الشريعة بتطبيقها الصحيح إنما تحقق المجتمع المثالي في كل مناحيه.
وإذا كان البعض يرى في بعض العقوبات الشرعية قسوة وشدة، فهذا لا يمنع من صلاحها وقبولها، كما لا يمنع من قبول الدواء الشافي كونه مرًّا مؤلمًا.
والعقوبات في القوانين الوضعية لا تبلغ مبلغ العقوبات الشرعية في حمايتها مصالح الأفراد والمجتمع وإصلاح الجاني، ولا مدى قدرتها على الردع والزجر والواقع خير شاهد على ما نقول، فالجرائم في ظل العقوبات الوضعية في ازدياد والمجرمون يكثرون ولا ينقصون.
والحدود في الإسلام لها شروط حتى تُقام:
1.ألا يقيمها إلا الحكام.
2.لا تُقام إذا قامت شبهة :مثل أن يسرق رجل مالاً مشتركًا له فيه نصيب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول "ادرءوا الحدود بالشبهات، فإن وجدتم له مخرجًا فخلوا سبيله، فإن الإمام- الحاكم- أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات".
3.أن العقوبة لا تمتد إلى غير من ارتكب الجرم (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى9 (الأنعام: من الآية 164)، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: من الآية 38).
4. لا بد من توافر شروط عدة حتى تثبت جريمة الحد، فعقوبة القطع لها شروط كثيرة، بعضها يتعلق بمادة الشيء المسروق، وبعضها بقيمته، وبعضها بالسارق نفسه، وبعضها بالمالك، وبعضها بعلاقة أحدهما بالآخر وقرابته له وبعضها بالشهود.
5.في حالة السرقة يسقط الحد إذا كان السارق مضطرًا؛ لذلك للحفاظ على حياته، فقد جاء رجل إلى عمر بغلامين يعملان عنده سرقا جملاً لرجل آخر وذبحاه وأكلا منه ليقطعهما، فنظر إليهما عمر، فوجد وجهيهما شاحبين، فقال للرجل لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم- أي الغلمان- لقطعتهما، ولكن اعط هذا ثمن جمله- صاحب الجمل- ثم هدده إن جوعهما مرة أخرى لأنزل به العقاب هو.
6.ألا تقام الحدود في حالة الحرب أو في دار الحرب.
هذه نبذة قصيرة عن موضوع الحدود في الإسلام، ومن أراد المزيد فليرجع إلى مراجع الشريعة وكتب الفقه ففيها التفاصيل.
وإن أنسى لا أنسى موقف الشيخ الشعراوى- رحمه الله- على جبل عرفات في يوم عرفة في إحدى السنوات الماضية، وهو يخطب في الحجيج، قائلا (قولوا لحكامكم لماذا لا تقيمون حد السرقة إلا أن تكونوا لصوصًا؟ لماذا لا تقيمون حد الزنا إلا أن تكونوا زناة...)، ودارت الأيام، ورأينا حكامنا يفوقون في لصوصيتهم عصابات المافيا في العالم، يسرقون جبال الأموال ويهربونها في دول العالم، ويتركون شعوبهم تئن من الجوع، وينتحر بعض أفرادها من الفقر، وينهش السرطان أحشاءهم ويخيم الجهل على أبنائهم، والبطالة على شبابهم، والعنوسة بفتيانهم وفتياتهم، وتنوء الدولة تحت وطأة الديون الخارجية والداخلية التي تهدد مستقبل الأجيال القادمة، والتي لو اقتطع بعضهم بعضًا من مسروقاته لسدد هذه الديون.
-ومن العجب العجاب إذا تحدثنا عن إقامة الحدود على هؤلاء وأمثالهم الذين يعتدون على أموال غيرهم وأعراضهم ويهددون أمن المجتمع واستقراره، إذا توفرت شروط التنفيذ، وانتفت الموانع والشبهات، قام العلمانيون وكارهوا شريعة الله يتحدثون عن الرحمة والرأفة والحنان، هل الحنو قاصر على المجرمين؟
-قاصر عن الضحايا؟ محظور عن المجتمع؟ ألم يقل المولى تبارك وتعالى: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (النور: من الآية 2)؟..
إن الذين ينظرون إلى جانب الشدة في الحدود، يغفلون جانب الرحمة فيها، فهي رحمة بمن يفكر في الجرم إذ تردعه ابتداء، وإذا اقترفه فعوقب كفّر ذلك عنه جرمه في الآخرة وهذا رحمة به، وارتدع بذلك غيره، وأمن المجتمع على حياته وماله وعرضه، وهذا من رحمة الله به.
-----------------
* هذا المقال رفضت جريدة (المصري اليوم) نشره رغم إعلان رئيس تحريرها علي الهواء في أحد البرامج استعداده لنشر المقال على صفحة كاملة.
-----------------