إلى الذين لم يعرفونا بقلم الإمام الشهيد حسن البنا
كتب الإخوان المسلمون كثيراً في بيان فكرتهم، وخطبوا كثيراً في شرح منهاجهم، وأبانوا عن أنفسهم في كثير من المواطن بوسائل الدعوة المختلفة. وبالرغم من ذلك كله لا يزال فريق من الناس يفهمون الإخوان على غير حقيقتهم، ويرسمون لهم في خيالهم صورا لا تتفق مع الحقيقة في قليل ولا كثير. فإلى هؤلاء الذين لم يعرفونا من قبل أو الذين عرفونا بصورة غير حقيقية أوجّه هذه الكلمة.
الإخوان المسلمون في إيجاز (جماعة فهموا الإسلام فهماً صحيحاً، واعتقدوه أفضل نظام لإصلاح الأمم والشعوب في كل مناحي الحياة، فاجتهدوا أن يعملوا به في أنفسهم وشئونهم، ووقـفـوا حياتهم على بيان محاسنه وجماله، ودعوا الناس جميعاً إليه، حتى تسود تعاليمه هذا الكون، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
يظن كثيراً من الناس أن الإخوان المسلمين (دعوة حزبية) لا .. إنهم يتبرمون بالأحزاب السياسية، ويمقتون نظام المجتمع القائم على أساسها، وينادون بالقضاء عليها، وجمع كلمة الأمة على ما فيه خيرها ومصلحتها، ويستشهدون بالواقع الذي لا مكابرة فيه على ضرر الأحزاب، وخطر الأحزاب على شعب في فجر نهضته كالشعب المصري، فليعلم هؤلاء أن الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام صنيعة لحزب، أو متصلين بحزب، أو عاملين لمصلحة حزب، أو نصراء لحزب على آخر، ولكنهم يرون في الحزبية خطراً، فهم يدعون دائماً إلى الوحدة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
يظن كثير من الناس أن الإخوان المسلمين يقضون الليل في المساجد والمغاور، ويشترطون على من يلتحق بهم أن يتجرد من عمله، ويتـفرغ للعبـادة، ويهمل في شئونه الخاصة. والإخوان المسلمون في حقيقة دعوتهم يحاربون هذا التنطع، وينكرون هذه البطالة، ويلزمون من يتبع طريقتهم أن يكون إماما في كل شيء: في العلم، وفي المال، وفي القوة، وفي الصحة، وفي الخلق، ولا يلزمون أحداً إلا أن يؤدي فرائض الله التي فرضها، ويجتنب محارمه التي حرمها، أما تلك الليالي التي يجتمع الإخوان فيها في مسجد من المساجد أو في مكان خلوى، فليست إلا اجتماعات عادية إما لدرس أو لتعارف، أو رياضة، أو نزهة، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الجماعات، وكل اجتماعاتهم إنما تكون في دورهم وفي أنديتهم.
ويظن كثير من الناس أن الإخوان يشترطون في أعضاء جماعتهم هيئة خاصة في اللباس، ونظام الحياة المنزلية وغيرها من شئون الحياة الخاصة. وذلك وهْم كبير فالإخوان يعلمون أن التقوى في القلوب والأعمال قبل أن تكون في المظاهر والأشكال، وأن الدين يعنى أول ما يعنى بتطهير النفوس وتزكيتها، وسلامة العقائد وتصحيحها، وإحسان العبادة لله تبارك وتعالى، ولم يجعل الناس في حرج من العادات والشئون الخاصة. وكل الذي يقوله الإخوان في هذا: أن للإسلام آدابا وضعها يجب على كل مسلم سواء أكان عضوا في جماعتهم أم غير عضو فيها أن يحافظ عليها وأن يلزمها، ويلزم بها أهله ونساءه، وكل من له ولاية عليهم.
ويظن كثير من الناس أن الإخوان يتاجرون بالدين، ويسترون وراء دعوتهم الإسلامية دعوة أخرى خفية غير ظاهرة، فإذا سألتهم عن ماهية هذه الغايات المستورة، والدعوة الخفية، سكتوا أو ضربوا في بيداء من الخيال لا حدود لها ولا نهاية. والإخوان المسلمون لا يعملون في الظلام، ولا يجتمعون في بطن الأرض، ولا يتدارسون رمـوزا ولا شفـرات، ولكنهـم يعملون في وضح، ويجتمعون في المساجد الجامعة، والأندية العامة، ويفتحون أبوابهم على مصاريعها لجميع الناس، ويذيعون آراءهم إلى أبعد ما تبلغه محطة الإذاعة، ويتدارسون كتاب الله وأحاديث رسوله، ويخطبون بفكرتهم على رءوس المنابر، وعلى ملأ الألوف من الأشهاد، ولا يكتفون بهذا فهم يطبعون ما يقولون وينشرونه بالمجان في غالب الأحيان، ودأبوا على ذلك عشر سنين طوالا، فلم ينكشف باطن أمرهم عن شيء يخالف ما ظهروا به وما دعوا الناس إليه.
ويغمز كثير من الناس الإخوان المسلمين بالقول في المجالس، أو بالكتابة في الصحف غمزا خفيا أو ظاهرا واضحا في وطنيتهم أو في خطتهم أو طريقتهم، أو في جرأتهم في الحق، وصراحتهم في الجهاد، وكثير من هؤلاء لم يجرِّبوا ما جرَّب الإخوان، ولم يحيطوا بأطراف الدعوات وشئونها ومستلزماتها ما أحاط الإخوان، ولم يفكروا في عواقب الأعمال ونتائجها وثمرتها ما فكر الإخوان، وقد يكون كل ما عندهم حماسة مشكورة، أو جهالة معذورة. هذه المزاعم كلها أو بعضها أو أكثر منها في سلسلة طويلة من الخيال البديع أحياناً، والمريع أحيانا أخرى أسمعها أو تنقل إلى الإخوان، فأعجب لها وأفرح بها، فإن الحيرة بدء المعرفة، والشك سبيل اليقين.
فإلى هؤلاء الذين لا يعرفوننا أوجه الدعوة عامة وخاصة أن يشرفوا دورنا بالزيارة القصيرة أو الدائمة، ليروا بأنفسهم أين الإخوان مما سمعوا أو تخيلوا، وليطمئنوا على أن هذه الزيارة لا تكلفهم أية تبعة مادية أو أدبية بل قد يفيدون منها في ناحية من هاتين أو فيهما معاً. وأظن أن هذه هي أدق طريق وأقصرها إلى المعرفة الصحيحة، فليس بعد البيان بيان، والمشاهدة أصدق دليل.
وليثق الذين يكتبون عن الإخوان في صحفهم وجرائدهم فيصورونهم تصويراً غير حقيقي، ويتجنون عليهم في الأوصاف والأحكام، أن الإخوان لا يغضبون لهذا، ولا يحنقون على كاتبيه، وأنهم سوف لا يردون عليهم هذا العدوان بمثله، لا لأنهم يعجزون عن الرد فلا أظن أحدا - وخصوصاً في مصر في هذه الأيام - يعجز عن أن يقارض غيره انتقاصا بانتقاص وشتما بشتم. ولكن لأن الإخوان يريدون أن يضربوا للناس مثلا في التكرم، والمرور باللغو مر الكرام، ووجوب صرف الوقت في غير الجدل اللفظي. وهم كذلك لا يريدون أن يوسعوا شقة الخلاف بينهم وبين غيرهم، فهم يعتقدون أن الغيب سر من أسرار الله، ومن يدري فقد يكون خصم اليوم صديق الغد، وصديق اليوم خصم الغد ولله في خلقة شئون، وما أحكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما) وحسبنا أن نقول لهؤلاء الإخوان: يحسن إن أردتم أن تقابلوا هذا التكرم بالتقدير ولكم الحرية على كل حال.
أيها الذين لم تعرفوا الإخوان المسلمين بعد: اجتهدوا أن تعرفوهم، وهم ليسوا ألغازا، وستجدون فيهم سمو المبدأ إلى أبعد حدود السمو، وعمق الإيمان إلى أعمق أغوار النفوس والأرواح، وصدق الرغبة والغيرة والحماسة إلى أرفع حدود الصدق، وستعلمون بحق أنهم بفضل الله عليهم لا بأنفسهم معقد الأمل، وموضع الرجاء، نحسبنا كذلك ولا نزكي على الله أحدا، واللهم لا تكلنا إلى أنفسنا.
المرجع : جريدة النذير الأسبوعية: العدد 3 ـ السنة 2 ـ الإثنين 15 محرم 1358هـ.