بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الأنعام:1].... وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [ الإسراء: 111 ]...
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ محمد بن عبد الله ، الذي تربى على يديه جيل قرآني فريد، قال الله – عز وجل – في شأنهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] هذا ثناء الله عليهم سجله إلى يوم الدين، كأعظم وثيقة شرف عرفتها البشرية، وكانت هذه الآية الكريمة هي وسام الشرف الرباني من الطبقة الأولى.. ليس لذواتهم، ولكن لصفاتهم المتميزة في ذات الآية: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، مع الإيمان بالله الواحد.. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أرقى وظيفة على وجه الأرض منذ أن وطئت أقدام آدم عليها وحتى قيام الساعة.
ثم توالت من بعدهم أفواج الدعاة إلى هذا الدين الخاتم، الذي نحن على يقين جازم الشك فيه ولا مراء في فضل إتباعه وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ البقرة: 251 ]، ومن فضل الله على العالمين – المذكور في هذه الآية – أن يهيئ لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجد لها دينها. وفي يقيني أن هذا المجدد لن يكون وحده أن يحمل هذه الأمانة.. بل لابد من صحبة تتعاون معه، وتؤازره، وتشد عضده، وتحمل تعاليمه إلى الآفاق، كما فعل الحواريون مع عيسى ابن مريم، وكما فعل جيل الصحابة العظيم الفريد مع رسول الله محمد .. وكما فعل العلماء الأجلاء في هذه الأمة، جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل.. وحملة هذا المشعل الرباني لا يرضى عنهم أصحاب الشهوات، وأهل السلطان، فتكون مواجهة شرسة.. والشراسة من جانب الطغيان ضد هؤلاء الدعاة الذين لا حول لهم ولا قوة.. وليس لهم سلاح إلا الكلمة الطيبة.. فتأتي الابتلاءات والمحن قاسية وعنيفة.. وطويلة كذلك.. حتى إذا صبر هؤلاء الدعاة.. نزل عليهم نصر الله.. وأعظم نصر لهم، ليس في هلاك الطغاة، ولكن في انتشار دعوتهم وإيمان الناس بعقيدتهم، ومع الفساد في الأرض، أو تقليص حجمه على الأقل.. وأن ينتصر الدعاة على أنفسهم فيهبوا أرواحهم رخيصة لله عز وجل، يظنها الطغاة قتلاً، ويراها الدعاة شهادة، وفوزاً ونعيماً وملكاً كبيراً وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ آل عمران: 169 ].
ولقد تعرض الإخوان المسلمون عبر تاريخهم الطويل، للعديد من المحن والشدائد والابتلاءات، والتي كانت تهدف – كلها – إلى استئصال شأفة هذه الدعوة وإطفاء نور الله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ التوبة: 32 ].
وصدق الله العظيم إذ يقول وهو يرسم الطريق للسالكين على مر الدهور والعصور: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [ إبراهيم: 13، 14 ] .
ولقد تحدثنا في هذا البحث عن المحن والشدائد والابتلاءات التي تعرَّض لها الإخوان المسلمون في ثلاثة أبواب رئيسية:
الباب الأول
ويشمل ما تعرَّض له الإخوان المسلمون من ابتلاءات قبل انقلاب يوليو سنة 1952م.
الابتلاءات سنة ربانية كونية
الابتلاء في اللغة معناه الامتحان.. والاختبار.
وفعله ابتلى.. والفعل المجرد هو (بلى) .. ومنه بلاه بلاءً حسناً. ومنه في التنزيل المحكم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [ البقرة: 124 ]، أي امتحنه واختبره بها، ومنه أيضاً: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [ البقرة: 249 ]، ومنه أيضاً: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [ النساء: 6 ].
في الآية الأولى امتحن الله إبراهيم واختبره.. وفي الآية الثانية امتحن الله قوم طالوت بالنهر، وفي الآية الثالثة أمر بامتحان واختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد .
الامتحان:
نظام عادل إلى حد كبير، من أنظمة الكون، وذلك لتقويم شخص ما. فهو إذاً نوع من العدالة الذي اشتهر بين الناس:
فالطلبة في الفصل الدراسي يستمعون إلى المدرس شارحاً لهم الدروس، وهو لا يعرف من استوعب ومن ذاكر ومن كان شارداً بفكره وروحه رغم حضور (جسده) في الفصل. كيف تميز بين هذا وذاك.. لا شيء سوى الامتحان. وامتحان الشهادة الابتدائية أسهل من الإعدادية.. والإعدادية أسهل من الثانوية.. وهكذا تتدرج صعوبة الامتحان حتى يحصل الطالب على الدكتوراة، وصعوبة الامتحان هنا نوع من العدالة، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ الزمر: 9 ] والتفرقة لا تكون إلا بالامتحان.
وفي الوظائف يكون الامتحان نوعاً من العدالة.. إذا كنت صاحب مصنع مثلاً فامتحان تعيين البواب والفراش والعامل العادي سهل ويسير، قد تكفي فيه بمقابلة الشخص للتأكد من تمام صحته، وقدرته على بذل الجهد.. وكفى.
أما إذا أردت مديراً للمصنع.. فالامتحان صعب وعسير، وقد تلجأ إلى مكتب خبرة بعد الإعلان في الجرائد عن الوظيفة، ويخضع المتقدمون لاختبارات فنية و (تكنولوجية) وإدارية، وسرعة بديهة وحسن تصرف وعمق نظر، والإنصاف في المعاملة بين الموظفين.. إضافة إلى فحص شهاداته وخبرته وسيرته الذاتية.. لماذا؟! لأن المهمة صعبة وشاقة وخطيرة ومؤثرة.
واختيار وكلاء الوزارات أصعب، فلابد أن تتعرض لفحص واختبار، وتنعقد من أجل ذلك لجنة للترشيح بين المؤهلين فنياً وإدارياً.
وفي مصر العزيزة، في كليات الطب، عند الحصول على شهادة الدكتوراه، تتعرض للامتحان من حوالي 24 أستاذاً، ولا يمكن أن يجيزوك من أول اختبار، لماذا؟! لأنك ستكون مسئولاً عن أرواح الناس.
وهناك بلاد لا يمكن السفر إليها إلا بعد الحصول على شهادة إتقان لغة مثل أمريكا، فلابد للدارس من اجتياز امتحان (toifel) وهو امتحان صعب وعسير.
وبديهي أن أي وظيفة لها أهمية كبيرة يكون امتحانها أصعب، وكذلك أي وظيفة مرتبها كبير.. فيقابل المرتب الكبير امتحان كبير وشاق وعسير.. ومتنوع، قد يشمل التحريري والشفوي والعلمي.. وفي معظم الأحوال تحتاج إلى مقابلة شخصية مع صاحب العمل بعد اجتياز كل الامتحانات المؤهلة للوظيفة.. وهذا أيضاً نوع من العدل الذي استقر عليه الناس وتعارفوا.. وقد حدث هذا لسيدنا يوسف ، ففي قصته المبسوطة في القرآن الكريم في سورته (سورة يوسف) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [ يوسف: 54 ] ولعل سيدنا يوسف ، رأى أن الملك لم يتعرف على كل مواهبه وإمكاناته الشخصية (أقصد نعم الله عليه) .. فاستدرك على الملك قائلاً: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ .
إني حفيظ عليم:
هذا الكلام الطويل عن الامتحانات كنظام كوني عادل للتقويم ارتضاه الناس على مر العصور كنوع من العدالة فيما بينهم [ما لم تشبه شائبة الغش أو المحسوبية أو الرشوة كما في كافة الدول المختلفة].
وهو نظام عادل أيضاً من نظم الصناعة:
فأنت تصهر الذهب لكي تنقيه من الشوائب، فيصير ذهباً خالصاً (عيار 24).. فإذ خُلط صار عيار (21) أو عيار (18) ولكلٍ سعره وثمنه الذي يقل كلما اختلطت به الشوائب.
وأنت أيضاً تقوم بتقطير البترول لكي تحصل منه على مكوناته المختلفة وتميز بينها، بالحرارة العالية التي قد تصل إلى (950ºم) ففيه وقود الطائرات وهو أغلاها ثمناً (النافثا)، وفيه وقود السيارات (البنزين) وفيه الكيروسين والجازولين، وأخيراً المازوت والقار، وقد يتفحم بعضه ويصير فحماً.
وهذه العمليات في الصناعة تسمى فتنة. والفتنة في اللغة معناها الاختبار والامتحان.. كما جاء في القاموس: فتنت الذهب والفضة ووضعتهما على النار وأذبتهما حتى يتميز الرديء من الجيد.. وفي السوائل توجد عملية التقطير، وهو فصل السوائل غالية الثمن عن السوائل رخيصة الثمن. فهو أشبه بامتحان مجموعات السوائل المختلطة لتمييزها عن بعضها البعض.
ولعل هذا يضاهي في الإنسانية قول الله عز وجل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].
وظيفة الدعاة إلى الله:
وهي رد الناس إلى ربهم وبارئهم وخالقهم، وهي عند الله – عز وجل – أعلى الوظائف وأرقاها، وأصعبها وأدقها، وتحتاج إلى مهارات شخصية متعددة.. وكفاهم شرفاً أن اختارهم الله واصطفاهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33] .
وكفاهم شرفاً أن الله صنعهم على عينه – سبحانه وتعالى – قال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39].
وكفاهم شرفاً: أنهم يقومون بأخطر مهمة على وجه الأرض، وهي محاربة الفساد.. ومحاربة أكبر الجرائم وهي استعباد الإنسان للإنسان.. فالدعاة يقومون بنشر التوحيد الذي ينزع عبودية كافة الطواغيت والشهوات والنزواعت، وعبودية المفسدين في الأرض.. إلى قمة الحرية.. ومنتهى الحرية.. وهي عبودية رب العالمين، وحده دون سواه، فليس بعد عبودية رب العالمين إلى رق الطغاة والبغاة والمفسدين.. فضلاً عن رق الشهوات.
وفي الوظيفة الأولى؛ وظيفة محاربة الفساد في الأرض يقول الله جل وعلا في شأن الدعاة: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [ البقرة: 251 ].
وظيفة الدعاة إلى الله إذاً، هي أدق الوظائف وأصعبها، ولابد لها من اختبارات وامتحانات تناسب صعوبة وعظمة هذه الوظيفة.
وظيفة الدعاة إلى الله هي المركز المرموق للبشر عند الله عز وجل.. ولابد لها من مؤهلات. فإذا تراضى الناس في دنياهم نظاماً للتأكد من مؤهلات وظائف الدنيا.. فلماذا لا يرضون منهج الله في إعداد حملة دعوته؟!. إن أجر وظيفة الدعاة إلى الله عز وجل هي أعلى مرتب وأكبر أجر.. لا يعدله أجر وظيفة مهما كانت الوظيفة.. كما جاء في الحديث: " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر ".. فالحواس التي يدرك بها الإنسان، ويقيس بها الأمور هي العين، السمع، القلب.. هذا النعيم فوق إدراكها.. فكيف تدركه؟ وأهل الجنة بين هذين الأجرين يتفاوتون، في الأملاك والنعيم والأجر.. كل هذا بخلاف الحور العين. والقصور والأنهار.. وراحة البال لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا [الواقعة: 25].
لماذا لا يكون مقابل هذا الأجر امتحان واختبار، للتفرقة في الجزاء والأجر والمرتبات والمكافآت المختلفة بين الناس من أهل الجنة !!.
والذين يرفضون مبدأ الامتحان للتفرقة بين أصحاب الأجور المختلفة ظالمون، والله لا يقبل منهم منهجاً ولا نظاماً، كما في الحديث: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا "، فمن العدل أن تتم التفرقة بين كل هذه الأصناف من البشر، وفي التنزيل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179]، هذه سنة كونية.. ونظام عادل للتمييز بين الناس.
ويصف الله عز وجل الناس الذين لا يريدون الامتحان منهجاً للتفرقة بين البشر والعدالة بينهم، أنهم (واهمون) .. فسد خيالهم، وضل تصورهم، واختار القرآن الفعل (حسب) للدلالة على هذا القصور في الفهم والتصور والإدراك.. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]، فالعدل والعقل والمنطق.. كلها توجب الامتحان للتفرقة بين درجات الناس في الدنيا والآخرة، وكذلك الدعاة.. وكلما كانت المنزلة أكبر كان الامتحان (البلاء أو الاختبار) أصعب، لذلك كان للأنبياء والرسل أصعب الامتحانات وأدق الاختبارات.. وفي الحديث: " أشد بلاءً: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .
لذلك يجب على الذين اختاروا طريق الدعاة إلى الله عز وجل سبيلاً واختاروا هداية الناس مهنة.. والعمل على التمكين لشريعة الله وظيفة لهم..أن يوطنوا أنفسهم على قبول امتحانات التأهيل لهذه الوظيفة الربانية العظيمة، وأن يتعاملوا مع الابتلاء بصبر وحب.. بل يشكرون الله عز وجل أن اختارهم لهذه الوظيفة السامية.. والمرموقة أيضاً، فامتحان الدعاة سنة كونية، وناموس رباني للتأهيل لهذه المهمة العظيمة.. ولهذه الوظيفة المرموقة عند الله عز وجل.
إن الذين ينجحون في امتحان الدعاة يحصلون على وسام رباني، تم تسجيله في أعظم الكتب على وجه الأرض وهو القرآن الكريم. هذا الوسام يسمى وسام (الخيرية).. وهو أرفع الأوسمة بعد وسامي النبوة والشهادة. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] فهذه الخيرية ترتبط وجود وعدماً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أنواع البلاء:
ويصنف د. محمد عبد القادر أبو فارس أنواع الابتلاء إلى نوعين . فردي، وجماعي، والأخير هو الذي تحدثنا عنه آنفاً. أما النوع الفردي فهو ما يحدث للإنسان من ابتلاءات وهو في دوامة الحياة الدنيا. وهذا قدر مكتوب على البشرية كلها لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4].. إن جريان دوامة الحياة مع البشرية مليء بالمعاناة والمصائب.. ولكل إنسان نوع من المكابدة يُمتحن به.. " فمن رضا فله الرضا، ومن سخط فله السخط " كما ورد في الحديث الشريف.
وهذا معناه أن البشرية كلها تكابد، وتبتلى، وتمتحن.. وتختبر .. لكن تختلف الامتحانات في أسئلتها، وأجوبتها، والشهادات الممنوحة لها. ذلك ناموس الحياة الدنيا.
الابتلاء الفردي:
وهو ما يحدث للإنسان من امتحانات في صورة مصائب، يُبتلى بها ليشكر أو يكفر، ليصبر أو يجزع.. فالشكر والصبر نجاح في الامتحان (الابتلاء) .. والجزع والكفر رسوب في الامتحان.. لذلك كان الرضا بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان ينهدم الإيمان بانعدامه.. أو على الأقل يهتز ويتزعزع.. وفي الحديث: " ليس من من لط الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " ذلك لأن لطم الخدود وشق الجيوب تعبير عن السخط، وعدم الصبر على المصائب.
ولقد نقل صاحب الظلال عن الإمام محمد عبده كلاماً طيباً عن ناموس الابتلاء الذي يصيب النبات والحيوان والإنسان في تفسير قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4 ]، جاء فيه" فإذا تصورت كم تعاني البذرة في أطوار النمو: من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، تستعد.. إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى.. والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ .. ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح. كما قال في السورة الأخرى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الإنشقاق: 6].
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تنتهي، تبدأ في الكبد والكدح والنَّصَب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء – بإذن ربها – وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض – إلى جانب ما تذوقه الوالدة – ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى يكاد يختنق في مخرجه من الرحم!
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأَمَرُّ، يعمل فمه ورئتاه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة!.. ويعان في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد، والذي يلاحظ الوليد حينما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي، يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة. وعند بروز الأسنان كبد، وعند انتصاب القامة كبد، وعند الخطو الثابت كبد، وعند التعلم كبد، وعند التفكر كبد.. وفي كل تجربة جديدة كبد، كتجربة الحبو والمشي سواء. ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه. وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوات أو نزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة. والكل يحمل حمله ويصعد كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء. إن الكبد طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة لينتهي إلى الكبد الأشق والأمرّ في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله. إلا أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء، إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير. ليس مثله طمأنينة بال، وارتياح للبذل. واسترواح بالتضحية. فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين! أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة، ليس كالذي يموت في سبيل نزوة. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه. " أ. هـ. سيد قطب ".
هكذا ترى الابتلاء الفردي قدراً مكتوباً على الإنسان في كل مراحل حياته.. ذلك الابتلاء الفردي تراه واضحاً ظاهراً إذا صار الإنسان شاباً يافعاً أو رجلاً مكتمل الرجولة.. ومن أمثلة الابتلاء المعتادة.. الامتحان في الصحة والمال، وفقد الولد، وعدم الأمن.. فمن صبر فاز وله البشرى. والقرآن يؤكد ذلك بلام التوكيد في الآية الكريمة: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] وأحاديث فضل الصبر على أنواع المصائب والابتلاءات والاختبارات الفردية كثيرة.. ومبسوطة كذلك في كتب فضائل الأعمال. منها مثلاً فقد الولد كما جاء في حديث البخاري: " ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبض صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه.. إلا الجنة ".
وفي البخاري أيضاً عن فقد الصبر. عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول: " إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة، يريد عينيه ".
فللصبر على البلاء الفردي أجر كبير كذلك عند الله، لمن آمن وعمل صالحاً ثم صبر على الامتحان والابتلاء.. ذلك لأن طبائع الأشياء: أن ليس كل الناس يصلح ليكون داعية إلى الله عز وجل. وسوف يكون من الفتنة أن يبتلى الدعاة فقط، ولا يبتلى غيرهم من الناس. فكل البشرية في الابتلاء والامتحان والمكابدة سواء.. لكن طلاب الآخرة إذا نجحوا في الامتحان كان أجرهم أعظم وأكبر من مجرد الصبر على المصائب.