الإخوان في معتقل الطور
وبعد أن تم تجميع الإخوان في معسكر الهاكستب تم نقل حوالي ألف منهم إلى السويس حيث ركبوا الباخرة " عايدة " إلى معتقل الطور (طور سيناء) في وسط شبه جزيرة سيناء... فهو اعتقال ونفي وتغريب وتشريد.
وكان معتقل الطور مكاناً يتوقف فيه حُجَّاج البواخر للكشف عليهم بعد عودتهم من الحج فيما يسمى " الحجر الصحي "، فتم تحويل هذا المكان إلى معتقل للإخوان.
كان الشيخ محمد الغزالي إمام الإخوان في معتقل الطور، وكذلك تم اختيار عضو مكتب الإرشاد الشيخ البهي الخولي صاحب كتاب " تذكرة الدعاة " أميراً للمعتقل.. ولكن الشيخ البهي استُدعي للتحقيق بالقاهرة فاختار الإخوان الشيخ محمد الغزالي خلفاً له، وكان عمره آنذاك 32 عاماً.
كان معتقل الطور أول محنة شاملة للإخوان على مستوى القطر ا لمصري كله، فحوّله الإخوان إلى معسكر دائم لهم.
فكانت له برامج ثقافية يشرف عليها الشيخ محمد الغزالي، في محاضرات مستمرة، شرح فيها معنى الاستبداد السياسي، وأخرجه بعد ذلك في كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي).
وكانت له برامج رياضية يشرف عليها الشاب الرياضي الرشيق محمد مهدي عاكف الذي صار بعد 56 عاماً مرشداً سابعاً للإخوان المسلمين. ذلك النشاط الرياضي كان يشمل: التمرينات السويدية، والجري، والوثب، والزحف.. في برنامج دائم كل صباح تقريباً.
وكانت له برامج روحية، لمدارسة كتاب مدارج السالكين " للإمام ابن القيم ".. ويقوم بهذه المدارسة الشيخ محمد الغزالي، وكان يعاونه الأخ الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد، وهو أول طالب جامعي يلتحق بالإخوان المسلمين.. وكان رئيساً لقسم الطلبة في فترة من الفترات.
وكانت له برامج ترفيهية تشتمل على حفلات الشعر والأناشيد الإسلامية والحماسية، بل " والفكاهية "
فمن الأناشيد الحماسية:
هو الحق يحشد أجناده
فصفوا الكتائب آساده
نبي الهدى قد جفونا الكرى
نهضنا إلى الله نجلو الثرى
ونشهد من دب فوق الثرى
دعاة إلى الحق لسنا نرى
ويستعد للموقف الفاصل
ودُكّوا به دولة الباطل
وعفنا الشهى من المطعم
بروعة قرآنه المحكم
وتحت السما عزة المسلم
له فدية دون بذل الدم
ومن السمر اللطيف:
أنا كنت قاعد جوا البيت
وفتشوني وقالوا جنيت
قالوا لي: أنت من الإخوان
ومأثورات وسبحه كمان
بتصلي من غير إذن بوليس
وعلى صلاة الفجر حريص
دخل عليَّ كام عفريت
يا متهم، قلت لهم: إيه؟
وضبطنا في بيتك قرآن
ومربي ذقنك. جاوب: ليه؟
وتصوم الاثنين من غير ترخيص
والمصطفى بتصلي عليه
ليه ... وليه... وليه
أما الأخ علي أبو شعيشع(كتاب: يوميات بين الصفوف المؤمنة – علي أبو شعيشع )من قيادات الإخوان في دمنهور فيحكي تفاصيل كثيرة عن معتقل الطور:
والمعتقل يتكون من خمسة حزاءات. كل حزاء ما يقرب من عشرين غرفة متسعة "6 × 10 أمتار تقريباً " يتوسطه مصلى بها حنفيات مياه عذبة وبجوارها دورة مياه ملحة، وطول الحزاء يقرب من مائتي متر، يتوسطه فناء واسع استعمل للرياضة ويحيط به سلك شائك يليه أبراج الحراسة، ونزلنا في حزاء رقم 3، ونزل الشيوعيون في حزاء رقم 4، وبين كل حزاء ما يقرب من 100 متر، وبتنا في حجرتنا بعد أن مررنا على الحجرات الأخرى مصافحين، وأخذنا فكرة عن نظام الإيواء، فكان مخصصاً لكل واحد لوحان من الخشب وبطانية، ورتبنا أماكن النوم، وكان عن يساري الأخ " محمد عبد الرحمن " الطالب بالصنايع، وعن يميني الأستاذ " محمد كرم " وخرجنا بعد العصر مع الإخوان إلى الميناء فكانت متعة عوضتنا عن متاعب السفر ومفارقة الأهل، ووصلنا إلى الساحل ونزل الإخوان إلى الماء يصطادون القواقع، وقبل المغرب عدنا جميعاً إلى المعتقل وقد فتحت أبواب المدخل دون قيود.
خطاب المرشد:
دعينا إلى لقاء في المصلى قبل المغرب، وتلا علينا الشيخ الغزالي – حيث الشيخ البهي في التحقيق بالقاهرة خطاباً من المرشد العام موجهاً إلينا جميعاً لينبئنا أنه اختار الأستاذ " البهي الخولي " نائباً عنه مرشداً للإخوان بجبل الطور، وفي الخطاب يطلب منهم أن يختاروا اثنى عشر نقيباً تيمناً بما فعل سيدنا موسى عليه السلام ليعاونه في إدارة المعتقل.
نمنا ليلتنا وكنا مرهقين من سفر البحر، وقبل الفجر استيقظنا على صوت المنادي للصلاة، فصلينا الصبح في المصلى في الظلام، حيث تطفأ الأنوار الساعة 12 مساءً، وقادنا أحد الإخوان في طابور رياضي ومعنا الشيوخ، وبعده تناولنا الإفطار وخرجنا إلى شاطئ البحر لصيد القواقع والمحار، وكان منظراً خلابا.. قواقع في مختلف الأحجام يصل طول بعضها إلى 30سم وبألوان جذابة، ومحارات تتحرك على سطح الماء تزن الواحدة خمس (أوقيات) (الأوقية: 37.2 جرام )،يحركها جنين لا يزيد عن عقلة الإصبع.. وهذا جسم شفاف في شكل المنديل تتوسطه نقطة سوداء هي الكائن الحي الذي يحرك هذا المنديل ذي النقوش المنتظمة، وما أن يخرجه من الماء حتى يذوب تدريجياً ويتلاشى، وهذا حيوان بحري ما أن يحس بوقع أقدامنا حتى يحول المنطقة إلى بقعة ماء سوداء مستديرة قطهرا ثلاثة أمتار تقريباً، وتحت هذا السواد يفر من المنطقة، وهذا (قنفد البحر) ذو الشوك الخطر الذي يهاجم السيقان البشرية ويترك أسنانه المدببة داخل اللحم وهو أخطر أنواع الحيوانات البحرية وقد حذرنا منه عرب الطور، وبعد ذلك سمك القرش عدو البشر الذي يقضي على فريسته في الحال حين يعثر عليها، وقد لاحظنا أن حركة الصيد لهذه الأشياء مرتبطة بالمد والجزر.. فحين المد يقذف بها البحر إلى الشاطئ، وعند الجز يتركها سهلة الصيد سهلة المنال.
وكنت وزميل لي وهو الأخ "عزت خطاب" نخصص ما قبل الظهر للصيد وما بعد العصر نتسلق فوق قوارب خفر السواحل على الشواطئ نحفظ القرآن.
الطعام:
قدمت إدارة المعتقل وجبات الغذاء الثلاث من العدس والفول المخلوط بالرمال، وفي أيام وجبات اللحوم يوزع اللحم نيئاً، والطهي غير مستساغ، فاتصل الإخوان بالحكمدار الذثي وافق على تسليمنا وجباتنا بدون طهي، ليقوم الإخوان بتوزيعها على الحجرات لتتولى كل حجرة إعداد طعامها، وخصصنا نوبتجية للطعام يومياً، وجعلنا يوماً في الأسبوع نتناول فيه السمك، وكنا نشتريه من الصيادين بأحجام كبيرة لا تقل السمكة عن كيلو جرام وعليها غطاء ذو ألوان عجيبة حتى إننا عند تنظيفها كنا نتألم من إزالة هذا الغلاف الرباني الذي تكتسي به هذه الأسماك.
تأثيث المعتقل:
ابتكر الإخوان وسائل لتأثيث حجراتهم، فقاموا بعمل أسرة من ألواح الخشب وضعوها على أربعة صفائح معبأة بالرمال، ويغرس عدد من الشجر في الصفيحتين المجاورتين للحائط ليوضع عليها ملاءة " كناموسية "، وصنعت دواليب حائط من أقفاص الجريد تغطي بقطعة قماش، كما صنع براد الشاي من علب السلامون، والأكواب من علب اللبن، وصنعنا عباءات من البطاطين للتدفئة في الشتاء، واستعملت المحارات الكبيرة لحفظ الطعام، وقمنا بتصنيع شنط كبيرة لنودع فيها القواقع والمحار من صفائح الجبنة.
إخوان الطور:
اعتاد أهل الطور أن يروا الحزاءات في غالب شهور السنة مشغولة بالمجرمين الذين تنفيهم الدولة إلى معتقل الطور، وللأهالي قطيع من الماعز يدخل المعتقل من خلال الأسلاك الشائكة بحثاً عن الطعام، ويندر أن تعود الماعز إلى أصحابها، إذ يصطادها هؤلاء الخطرون ويذبحونها، ولكنهم لاحظوا أن المعتقلين في هذه المرة قوم أمناء.. يدخل الماعز معتقلهم ويعود دون أن ينقص، فلفت ذلك نظرهم، ولما سألوا علموا أن المعتقلين هم " الإخوان المسلمون "، وفوجئنا يوماً بقدوم وفد من أهالي مدينة الطور، وطلبوا مقابلة المسئول وقدموا له أنفسهم على أنهم إخوان شعبة مدينة الطور، وعلمنا أن الإمام الشهيد عند تأديته فريضة الحج وأثناء إقامته مدة الحجر الصحي اتصل بأهل المدينة وكون الشعبة ووضح لهم النظام الإداري، وأبدوا استعدادهم للقيام بأي خدمة، وقد كان لهم دور سيظهر فيما بعد.
رحلة إلى مدينة الطور:
اتفقنا نحن سبعة من إخوان البحيرة على الخروج في رحلة إلى مدينة الطور ومعنا الحاج مبروك هنيدي (من قيادات الإخوان في البحيرة – رحمه الله )،خرجنا صباحاً ملازمين الساحل مسافة أربعة كيلو مترات حتى وصلنا مدنية الطور، وتجولنا داخلها وصلينا الظهر بالمسجد واشترينا طعام الغذاء وتناولناه خارجها، كان الجو منعشاً والحرارة معتدلة، فأغوانا ذلك بالصعود إلى جبل مجاور للمدينة يعلوها بحوالي مائة متر، وبعد جهد وصلنا إلى القمة، وصلينا العصر وأخذ الحاج مبروك يدعو على الظالمين ونحن نردد خلفه الدعاء، واسترحنا قليلاً ثم بدأنا في الهبوط، وعند المهبط وجدنا شقوقاً بالجبل تندفع منها المياه الدافئة العذبة كنافورات تتجمع في حوض واسع، فنزلنا وحسبناها هي، كما فسرنا هذا المظهر بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ [البقرة: 74].
كانت الشمس قد قاربت على المغيب، ودفعنا الفضول إلى متابعة مسار المياه التي وجدناها تصب في غابة ضخمة كثيفة الأشجار يتوسطها قصر أبيض، وتوجه أحدنا وهو الأخ "علي شرف" إلى داخل الغابة ونحن ننتظر خارجها، وبعد دقائق سمعناه يستغيث ويطلب النجدة لأنه ضل طريق العودة، فتشابكنا بالأيدي ودخلنا الغابة في شكل قاطرة وطلبنا منه أن يردد الصوت حتى اهتدينا إلى مكانه وعدنا به حيث أتينا، وعلمنا أن الغابة والقصر مخصصان لرهبان سانت كاترين الذين يأتون إلى هنا للاستجمام، وكان المغرب قد حان فأسرعنا الخطى إلى المعتقل ودخلناه بعد العشاء فوجدنا الإخوان قد شُغلوا من أجلنا.
حزاء العمدة:
أقام الحاج محروس وهو عمدة لإحدى قرى مديرية سوهاج في آخر حذاء، ومعه إخوان كرام، فنصبوه عمدة عليهم وخصصوا له حجرة عند المدخل زينوا مدخلها بنقوش على شكل أزهار من القواقع المرصعة على قمة مرتفعة تسر الناظرين، واختار هو اثنى عشر شاباً كخفراء مع كل خفير " نبوت " والجميع طوع إشارته، وبدأ أوامر (العمودية) بأن كلفهم بمهاجمة حزاء رقم واحد وكان مغلقاً لأنه مخصص لكبار الحجاج من ذوي الرتب والألقاب وبه جميع الكماليات من أغطية ومفارش وفوط وصيني وملاعق وشوك وسكاكين وصواني وما إلى ذلك، ودهشنا حين قدم لنا الشاي في فناجين فاخرة على صينية فخمة واستعرضنا غرف الحزاء فبهرنا تأثيثها، فعزمنا على تقليدهم وخاصة أننا مجاورون لحزاء رقم (1)، وبعد العودة نظمنا الهجوم وجلبنا ما نحتاجه من (الصيني) وخلافه.
جنود الحراسة:
لاحظنا أن جنود الحراسة يجوعون بسبب قلة الطعام وأن الغذاء يتناوله الضباط، فتكفلت كل حجرة بجندي الحراسة الذي يقابلها، تسلمه وجبة كاملة على ثلاث دفعات مما ألف قلوبهم وجعلهم معنا على وفاق.
راديو:
استطاع أحد الإخوان إحضار (راديو) أوصلنا بالدنيا، وحفظه هذا الأخ في غرفته في مخبأ لا يعلمه سواه، وتعود أن يستعمله بعد نوم الإخوان ليستمع منه إلى نشرات الأخبار بالإذاعات الأجنبية العالمية.
النبأ المفجع:
وفي صبيحة يوم 12 فبراير وبعد أن أدينا صلاة الصبح، طلب منا ذلك الأخ التجمع في إحدى الغرف، وتحسسنا الطريق إليها في الظلام، وما أن تكامل العدد حتى بدأ الأخ بتلاوة قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] ثم فاجئنا بنبأ اغتيال الإمام الشهيد الذي استمع إليه من إذاعة أمريكية الساعة الواحدة صباحاً، ولم يزد على ذلك، وخرجنا من الحجرة هائمين على وجوهنا لا ندري ما يصنع القدر بدعوتنا وبنا، وظللنا طيلة اليوم نذرع حوش الحزاء جيئة وذهاباً صائمين لا نتناول طعاماً ولا نجد سوى المصلى نأوي إليها كما أذن للصلاة.
تشديد الحراسة:
شددت الحراسة وأغلقت أبواب الحزاءات، ومنعنا نم الخروج إلى البحر، ولم يسمح إلا للمسئولين بالخروج إلى الحكمدار، كلما استدعى الأمر مقابلته، ووضع الحكمدار فوق رأسه يافطة كتب عليها إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] وأخذ يردد هذه الآية لكل من يحضر إليه من المسئولين قائلاً: لقد عاقبتكم بالنفي وهو أقول أنواع الجزاء.
التفرغ للعبادة والدراسة:
حيل بيننا وبين البحر الذي كان يستغرق أكثر وقتنا، وبدأنا نهتم بالعبادة والدارسة والمحاضرات، وبدأت لجان متخصصة تدرس لما بعد الخروج، وتضع مناهج جديدة كانت من اختصاصات الإمام الشهيد الذي حُرمت الدعوة منه، وآن للإخوان أن يعملوا على منواله، وقام بعض الإخوان مثل: عبد العزيز كامل، والدكتور ضياء الدين الريس، والبهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، بتنظيم دروس ومحاضرات يومية استفدنا منها الكثير.
بسبس:
دست الحكومة علينا حين ترحيلنا من مصر بعض عيونها يتجسسون علينا ويقيمون معنا داخل المعتقل، وتعرفنا عليهم وأخذنا حذرنا منهم، وأطلقنا على الواحد منهم لقب (بسبس) فما أن يذكر الأخ لأخيه هذا اللقب إلا ويعلم أن جاسوساً بجواره، وخاب مكرهم وتوقفت مهمتهم.
الاتصال بالخارج:
قام كتاب الإخوان بكتابة مقالات خطيرة تصف المعتقل ومعاملة قوات الحراسة لنا، وتهاجم الحكومة والمسئولين، وكلف إخوان شعبة الطور بتوصيل هذه المقالات بطريقتهم إلى وكالات الأنباء والصحافة الأجنبية بالقاهرة التي قامت بنشرها وإذاعتها، وكان لها أثر خطير شغل رجال الدولة فاتصلوا بالحكمدار وحاسبوه حساباً عسيراً على تفريطه في رقابة المعتقلين والسماح بخروج هذه المقالات للخارج.
الحكمدار عباس عسكر:
ضاق الحكمدار ذرعاً بمحاسبة المسئولين له، فجرد حملات التفتيش على الحزاءات، وبدأ بأول حزاء، دخله ومعه قوة من (بلوكات) النظام والهجانة ومعهم يوماً لكل حزاء إلى أن جاء دورنا، وفي صبيحة هذا اليوم شغلت وزميلي " عزت "بكيفية إخفاء مذكراتي، فأحضرت علبة (بوية) ووضعت داخلها أوراق المذكرات، ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة، وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريباً متجهاً بالحفر إلى خارج الأسلاك الشائكة ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء، وأهلت عليه الرمال، وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد، وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة حجرة إلى أن وصل إلى المصلى وحان وقت أذان الظهر وكانوا قد أحضروا كرسياً بجوار المصلى جلس عليه وفي محاذاته وعلى بعد أمتار متنه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان، وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه، فأمر جنوده الهجانة بإسكات المؤذن، فاستمر يؤذن، فضربوه بالكرابيج، فظل يؤذن وهي يبكي من شدة الضرب، وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم، واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة، فخشى من تطور الموقف ضده فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء ثم عاد إلى مكتبه.
وفي الصباح توجه بنا الشيخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحمدار، فإذا بالجنود في موقع مبنى الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات ويهجمون على الحكمدار فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضرباً لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم، وأُبلغت القاهرة باللاسلكي، واعتصم الجنود بمبنى الإدارة، وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام، وكلٌ يبكي على ليلاه.
فوجئنا في آخر النهار بوصول طائرة تحمل طاقماً جديداً من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل، وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه، وجاءت بعدها الباخرة عايدة تحمل قوة من الجنود، وعادت بالجنود المتمردين حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب.
خطبة الجمعة:
تولاها الشيخ محمد الغزالي وبعض الإخوة العلماء، وكانت خطباً حارة لا يسمع مثلها في بلاد مصر، تناولت الأحداث والدعوة والدعاة.
شهر رمضان:
أقبل شهر رمضان ووضع له الإخوان برنامجاً حافلاً نظامه كالآتي:
- تقوم كل مديرية بملازمة المصلي ليلة في الشهر بعد صلاة القيام تتعبد وتتهجد، وتدعو بالخير للإخوان وبالمصائب على رؤوس أعداء الإخوان، ثم توقظ الإخوان للسحور ثم صلاة التهجد ثم صلاة الصبح وبعدها يدخل الجميع الحجرات للنوم.
- تقوم كل مديرية بإعداد حفل مسائي مرة كل شهر بعد صلاة القيام يدعى إليه بقية إخوان المديريات تقدم فيه المرطبات في صفائح محاطة بالخيش، وتخصص نوبتجي لرش الماء على الخيش للتبريد، ثم يتلو الشيخ سرور " مقرئ الخاصة الملكية " القرآن حتى ساعة متأخرة من الليل وبعدها السحور.. وهكذا.
- وفي النهار تقوم نوبتجية بإعداد وجبة الإفطار في كل غرفة، وكانت صلاة القيام في كل حزاء جماعة يؤمها إمام، ولاحظت انشغال البعض بهموم الحياة أثناء الصلاة حيث كان الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي يؤم حزاء رقم (4)، والشيخ الغزالي يؤمنا، وسمعته مرة يختم الفاتحة مع الإخوان بكملة " آمين " وإذا أخ بجواري يردد معهم آمين، ظناً منه أنه يصلي خلف الشيخ الشعشاعي.
العيد:
وجاء العيد، وكان يوماً مؤثراً، تذكر الجميع الأهل والأحباب، غير أن إدارة المعتقل نظمت برنامجاً روحياً وسمراً بريئاً حتى تخفف عن الإخوان ما هم فيه. وطفنا بأركان الحزاءات نردد التكبير ونتبادل التهاني.
الإخوان في معتقل عيون موسى
لما قرب موسم الحج.. كان لابد من إخلاء معتقل الطور لأن به الحجر الصحي لحجاج البواخر، فتم ترحيل 250 معتقلاً – قالوا إنهم قيادات الإخوان – إلى معتقل عيون موسى.
ويواصل الأخ علي شعيشع قائلاً: تحركت الباخرة بعد العصر ونحن على ظهرها نودع معتقل الطور، واتجهت بنا نحو الشمال وشاهدنا سمك القرش يقفز من الماء في رشاقة إلى سمتوى السفينة، وكان معنا الدكتور حسين كمال الدين (كان أستاذ لمادة المساحة بكلية الهندسة، وأسهم بعد ذلك بدور كبير في بناء السد العالي، وله أبحاث متعددة: أثبت بها أن مكة تتوسط الكرة الأرضية، وهو أول من صنع "بوصلة" تحدد القبلة من أي مكان في العالم (وكان عضواً بمكتب الإرشاد) يرافق السفن في تحركها بحثًا عن الطعام، وإثباتاً لذلك قذفنا برغيف من الخبز فتوقفت سمكة القرش عن القفز.
بِرْكُة فرعون:
وقبل المغرب بقليل أحسسنا بالباخرة تهتز بعنف وتنخفض مقدمتها حتى سطح الماء وترتفع مؤخرتها حتى كدنا نسقط منها، وتكرر ذلك عدة مرات ونحن متشبثون بالسور.. حتى انتهت هذه الهزات، وعملنا من البحارة أن الباخرة تمر الآن ببركة فرعون، حيث يزعمون أن هذه المنطقة هي التي انفلق البحر فيها لموسى عليه السلام وغرق فرعون، ولذا سميت ببركة فرعون.
أمام عيون موسى:
وطلع النهار وأبطأت الباخرة في سيرها وغيرت اتجاهها نحو الشرق، ورأينا قياس الأعماق يهبط إلى نهاية السلم ويقذف بحبل في نهايته ثقل لمعرفة عمق الماء ويكرر ذلك مرات.. ثم توقفت الباخرة عن الحركة في الماء بعيداً عن الشاطئ، وطُلب منا الاستعداد للنزول، ووجدنا قوارب في نهاية السلم، وعند استعدادي للنزول منها لاحظت أنه مكتوب على القارب "الإخوان المسلمون" باللغة الإنجليزية "MOSLIMOON BROTHERS" فانشرح صدري، واستعملت المجاديب لتحريك القارب إلى أن اقترب من الشاطئ فنزلنا نحل أمتعتنا حتى وصلنا إلى البر.
لا ماء للشرب:
وما أن تكامل عددنا حتى طلبنا ماءً نشربه، فكانت المفاجأة حين قيل لنا إن المعتقل ليس به ماء وأن قارباً تجارياً سيحضر لنا مياه الشرب من السويس، وكلنا عطشى، فأحضروا لنا إبريقاً من الفخار به ماء فتسلمه أحد الإخوان وطلب فنجان قهوة وأخذ يضع في الفنجان ماءً إلى نصفه ويعطيه لكل أخ ليشرب، وارتوينا جميعاً بهذا الماء القليل الذي بارك الله لنا فيه.
الإيواء:
وزعونا على المعتقل وهو عبارة عن (كرنتينة) للحجر الصحي خاص بالأجانب، لذا فإن مبانيه فاخرة وهي عبارة عن فيلات لها (فرندات) ودورات مياه وغرف بأرضية من الخشب وداخل (الكرنتينة) كنيسة يعلوها صليب ومبخرة، كما توجد ماكينة إنارة معطلة وبجوارها خزان للماء، وكان يرفع الماء من عين في باطن الأرض طلمبة ماصة كابسة، وقد توقفت الماكينة عن الحركة من عشرات السنين، وعجز مهندسو مصر والأجانب عن إصلاحها.
كرامة الإخوان:
ما إن وصل الإخوان إلى معتقل عيون موسى إلا وكان شغلهم الشاغل توفير المياه، إذ وصل القارب التجاري من السويس يحمل ما يقرب من خمسة مترات مكعبة لا تكفي الشرب، وهنا تقدم المهندس " عبد المنعم صالح " رئيس شبكة النور بمدينة دسوق يطلب من المسئولين فحص ماكينة الإنارة وفتحت له أبوابها، ثم طلب بعض قطع الغيار ووسائل إنارة من السويس، واختار عدداً من الإخوان المتخصصين، وأخذ يزاول عمله متوكلاً على الله ونحن في مقر نومنا حتى أمسى الليل، فأخذنا نتسامر حتى الساعة الواحدة صباحاً، وإذا بنا نفاجأ بالأضواء قد سطعت من اللمبات، فكبرنا وحمدنا الله، واكتملت فرحتنا بعد تشغيل الطلمبة وصعود المياه إلى الخزان وسريانها في المواسير.
وسارت الحياة على وتيرة واحدة، ففي الصباح نصطاد المحار والقواقع من باطن الأرض، لأن الأسلاك الشائكة على شاطئ البحر تحول بيننا وبين الوصول إليه، وفي أثناء النهار دراسات ومحاضرات، وفي الليل نقف على الشاطئ داخل المعتقل نشاهد أضواء مدينة السويس عن كثب فيشتد الحنين إلى الأهل والخلان.
الكلاب:
بدأ الفرج يأتي بسبب الكلاب التي تأتينا من خيام البدو باحثة عن بقايا الطعام، وكثيراً ما كانت تعض بعض الإخوة ويرحل المصاب إلى القاهرة للعلاج، ومن هنا يأتي الفرج!!.
الإفراجات:
بدأت ترد كشوف بالإفراج عن بعض الإخوان، ومنهم الشيخ محمد الغزالي، وأخي الذي يلازمني في حياتي " محمد كرم " الذي كان نعم العون لي على متاعب الحياة، وبدأنا نتجمع في مجموعات بعد أن قل عددنا، وانتهى بي المطاف في فيلا بها (بانيو) مع الأخ الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي والأخ عبد العزيز كامل، وأخذ الأخ عبد الرحمن البنا يجمعنا في المساء في مكان إقامته ويردد أدعية مأثورة ونحن نردد خلفه، عسى الله أن يأتي بالفرج.
تلك مقتطفات مطولة جداً من كلام الأخ علي أبو شعيشع عن معتقل الطور.
وبعد أسابيع قليلة تم الإفراج عن جميع الإخوان في المعتقلات الثلاثة (معتقل الطور – معتقل عيون موسى – معتقل الهاكستب) وذلك بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي ومجيء وزارة حسين سري باشا.