الباب الثاني
الفصل الأول: ابتلاء الإخوان 1954م
المبحث الأول: الإخوان في سجن العامرية
في بداية عهد الثورة بدأ عبد الناصر في اعتقال الإخوان المسلمين (في 15/1/1954م) وبعد تجميعهم في السجن الحربي في مدينة نصر ضاحية مدينة القاهرة تم ترحيلهم إلى معتقل العامرية.. فإلى هناك.
- في 18/1/1954م نشرت الصحف عن ضبط كميات هائلة من الأسلحة والمفرقعات في منزل الأستاذ حسن عشماوي بإحدى قرى مركز فاقوس محافظة الشرقية، وبدأت النيابة التحقيق معه.. وكان عبد الناصر هو الذي أخفاها في هذا المنزل، فأصر عشماوي أمام النيابة على سماع شهادة جمال عبد الناصر.. مؤكداً أن هذه الأسلحة كان يملكها عبد الناصر، ولما حدث حريق القاهرة قبل الثورة وكان عبد الناصر ضالعاً فيه.. طلب منه إخفاء هذه الأسلحة أمانة عنده لحين التصرف فيها.. ثم غدر عبد الناصر بعشماوي.
- تم حفظ التحقيق ونُقل الإخوان إلى معتقل العامرية.
- هذا المعتقل وسط الصحراء قريب من الإسكندرية، أقامة الإنجليز.. لكنه كان تابعاً لإدارة المباحث العامة ويشرف عليه آنذاك ممدوح سالم (بعد ذلك بعشرين عاماً صار وزيراً للداخلية، ثم رئيساً للوزراء).. وهو عبارة عن أربع جمالونات حديدية لا تكاد تمنع المطر حيث كان الاعتقال في أواخر فصل الشتاء والمطر يغمر المعتقلين كلما نزل.
- وكعادة الإخوان حولوه إلى معسكر رباني.. حفظوا فيه القرآن، وأقاموا فيه الليل، وتمت فيه المحاضرات والمدارسات.. هذا علاوة على التمرينات الرياضية بقيادة الأخ سعد العراقي.
– كانت دورة المياه خارج العنابر.. وكان هذا أمراً شاقاً جداً خصوصاً في صلاة الفجر حيث الصقيع.
- بعد صلاة الفجر كان الأخ الشيخ صلاح أبو إسماعيل (صار بعد ذلك عضواً بمجلس الشعب لمدة خمسة عشر عاماً متتالية، وهو عالم كبير من علماء الإخوان المسلمين )– ذات الصوت الجميل يرتل آيات من القرآن الكريم يفتتحون بها يومهم الجديد كل صباح.
- قام جمال عبد الناصر بإقالة رئيس الجمهورية محمد نجيب في 25/2/1954م.
- نظم الإخوان مظاهرة عابدين الضخمة والشهيرة في أول مارس 1953م وهي أكبر مظاهرة في تاريخ مصر حتى الآن (نصف مليون متظاهر).
- اضطر عبد الناصر لإعادة محمد نجيب في 8/3/1954م ولكنه خدعه لحين امتصاص غضب الجماهير، واستطاع عبد الناصر بدهاء أن يمتص الصدمة.
- بدأ الإفراج عن الإخوان المسلمين اعتباراً من (7/3/1954م) وفي نفس الوقت اعتقل 118 شخصاً منهم 45 من الإخوان، 20 من الاشتراكيين، 5 وفديين، 4 شيوعيين.
ولفق جمال عبد الناصر تهمة العمل على قلب نظام الحكم لخمسة من الإخوان هم:
- عبد القادر عودة – وكيل الجماعة.
- عمر التلمساني – عضو مكتب الإرشاد.
- وثلاثة آخرون هم: عز الدين مالك، محمود الفوال، وهبة الفرماوي.
وأطلق عبد الناصر جلاديه وكلابه فأذاقوا هؤلاء الإخوان الخمسة سوء العذاب وأبشع الإهانات.
- تم الإفراج عن جميع الإخوان، على دفعات، آخرها في 25/3/1954م، وبهذا انتهت فترة المعتقل.
المبحث الثاني: الإخوان في السجن الحربي
تم توجيه ضربة قاصمة لجماعة الإخوان المسلمين في أكتوبر 1954م، لكي يخلو الجو للثورة تماماً... ولقد أحدثت هذه الضربة جرحاً عميقاً في صفوف الجماعة، حيث لم تخل قرية من قرى مصر (وعددها 4 آلاف آنذاك) من معتقل أو سجين أو شهيد.
حادث المنشية:
في الإسكندرية، في أكتوبر 1954م، اتهم جمال عبد الناصر الإخوان بتدبير حادثة لاغتياله، وتم إطلاق الرصاص عليه (من مجهول)، واتهم فيها الإخوان المسلمون، وتم القبض عليهم وأُعدم ستة شهداء منهم شنقاً، وقد اتهم في الحادث أحد إخوان إمبابة بالجيزة، اتهم بإطلاق الرصاص، وهو الأخ محمود عبد اللطيف.. وتم إعدامه، وأُعدم معه مسئول الإخوان في إمبابة (هنداوي دوير) ومسئول القاهرة (إبراهيم الطيب) رحمهم الله جميعاً، مع ثلاثة من أبرز قيادات الإخوان هم الأساتذة: الشيخ محمد فرغلي، عبد القادر عودة، ويوسف طلعت.. علاوة على شهداء كثيرين ماتوا في التعذيب ولم يقم أحد بإحصائهم للأسف حتى الآن.. وتردّد أن عددهم يقارب المائة.
ولقد حكى الأستاذ حسن التهامي رجل المخابرات القوى في عهد عبد الناصر أسراراً كثيرة – بعد وفاة عبد الناصر بعشرين عاماً – منها:
- شراء عبد الناصر لقميص واق من الرصاص قبل الحادثة بقليل جداً.
- استأجر عبد الناصر خبيراً أمريكياً متخصصاً في شئون الدعاية والإعلام "لتلميع" عبد الناصر إعلامياً، ووضع هذا الخبير خطة مفصلة من أهم بنودها: "افتعال" حادث اغتيال يظهر فيه عبد الناصر رابط الجأش، جريئاً، لا يخاف.. وانطلقت الرصاصات بعدها بقليل.. ولم يتحرك عبد الناصر من مكانه!! ولم تصبه رصاصة واحدة من هذه الرصاصات الست، .. وظل عبد الناصر يقول بصوت عالٍ: أنا الذي صنعت فيكم العزة.. أنا الذي صنعت فيكم الكرامة.. ولم يتحرك، ولم يرقد، ولم يتفاد الرصاص، وأكمل الخطبة، ولم يهتز.. فهل كانت هذه الرصاصات "فشنك" أم ماذا؟!!.. علامات استفهام كثيرة .. ولكن هذا الحادث كان كافياً لتصفية جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فتم القبض على حوالي ثلاثين ألفاً، في كل سجون ومعتقلات مصر، وكان من أولها وأهمها السجن الحربي.
وقد تكلمت في كتابي الأول عن السجن الحربي وبعض ألوان التعذيب فيه.
وما حدث في 1954م هو تقريباً ما حدث في عام 1965م، مع تعديل بسيط في أسلوب التعذيب.
- وفي 1965م كانت (الفلكة) هي الوسيلة التقليدية لنزع الاعترافات والتعذيب، وفيها يُربط الرجل من رجليه بحبل توضع بينهما حديدة، ثم ترفع الحديدة وتكون الرأس وكل الجسم إلى أسفل.. والرجلان إلى أعلى معلقتين بوسيلة أو أخرى مثل ما تعلق الذبائح عند الجزارين.
- أما في عام 1954م فلقد كان هناك تمثال يمسى "العروسة" يحتضنه الأخ المطلوب تعذيبه، جسده عار تماماً إلا ما يستر العورة، ويضرب بالكرابيج على ظهره ورجليه جميعاً.. لذلك كانت الإصابات في محنة (1954م) أكبر بكثير منها في محنة (65).
- الاستقبال في السجن كان متكرراً.. عاصفة من الصفع بالأيدي والركل بالأقدام والضرب بالعصى في كل مكان من جسمه، ثم يُحلق شعر الرأس بماكينة (زيرو) ويحمل المتهم أمتعته ويجري بها تحت سياط الكرابيج حتى يدخل السجن.
- حجم الزنزانة 3.5 متر طولاً × 180 سم عرضاً بارتفاع أربعة أمتار وبها شباك صغير 60سم × 30 سم مرتفع جداً. والباب حديد مصمت به فتحة قطرها 5سم فقط ينظر منها العسكري.. ثمانية أشخاص في كل زنزانة، أما في (1965م) فلم يتجاوز الأربعة أشخاص.
- تُفتح الزنزانة مرة واحدة في الصباح لمدة خمسة دقائق لتغيير الماء، وتفريغ جردل البول والغائط (أو الإناء الكاوتش) .. ومرة أخرى في المساء لمدة خمس دقائق.. كما تُفتح لتقديم الوجبات الثلاث لمدة دقيقة أو دقيقتين في كل مرة.
- كنوع من الإذلال، كانوا يجمعون الإخوان جميعاً في فترة الضحى في حوش السجن تحت ضرب السياط لكي يغنوا تمجيداً في عبد الناصر.. " يا جمال يا مثال الوطنية!".
- أقسم عبد الناصر أنه لن يستريح حتى يسفك (يسيح) دم عبد القادر عودة وكيل الجماعة.. وفعلاً نفذ ما وعد!!.
- من بين الأسماء الكبيرة التي عاشت مع الكلاب في زنزانة واحدة د. مصطفى عبد الله مفتش صحة القليوبية (عضو الهيئة التأسيسية) وكان الإخوان يتوقعون له الموت في كل لحظة.. ويحكي حارس الزنزانة أنهم أحضروا له كلباً لم يأكل لمدة يومين وأودعوه في زنزانة انفرادي مع د. عبد الله. ويقول الحارس: لقد رأيت عجباً.. لعلك لا تعلم أن الباشا (قائد السجن الحربي.. هكذا كان يلقبونه) كان قد أمر بألا نقدم طعاماً للكلب طوال الأسبوع. فلما أدخلت للدكتور طعام العشاء أمس ثم نظرت من ثقب الباب رأيت الكلب جاثياً ووجهه نحو الباب، لا يتحرك، كأنه يحرس الزنزانة من داخلها.. ورأيت الدكتور يقدم الطعام للكلب، والكلب لا يقربه، والدكتور يكلم الكلب كأنه إنسان، ويعزم عليه أن يأكل، والكلب يرفض.. ويأكل الدكتور ثم يقدم للكلب بقية الطعام فيأكله الكلب.. ويقدم له الماء فلا يمد فمه في الجردل، فينتظر حتى يتوضأ الدكتور فيلحس الكلب الماء الذي وقع في أثناء الوضوء على الأرض. ويقضي الدكتور الليل يصلي والكلب جاثم أمام الباب يحرسه.. والدكتور حين ينام أنظر فأرى الكلب في حالة تحفز نحو الباب، كالحارس الذي يخشى أن يقتحم عدوٌّ الباب على صاحبه وهو نائم.. وكنت أرى الدكتور في بعض الأوقات يضع يده على ظهر الكلب فينام باسطاً أقدامه بجانب الدكتور.. كأنه ولده الصغير.
خطوات المحاكمات في (1954م)
( من كتاب الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ – محمود عبد الحليم)
أولاً: يُسحب المطلوب محاكمته من الزنزانة سراً بعد العشاء.. إلى المكاتب.
ثانياً: يكتب المحققون محضراً من أسئلة وأجوبة كاملاً، قبل حضوره كما يريدون.
ثالثاً: يُقدم الأخ المطلوب إلى المحقق، الذي يجلس بجانبه قائد السجن الحربي وضباط المخابرات وضابط على الأقل من رجال جمال عبد الناصر الشخصيين ويقرأ المحقق على الأخ التهمة المطلوب اعترافه بها، فينفيها الأخ لعدم معرفته بها ولا بالأشخاص الواردة أسماؤهم فيها.
رابعاً: يأمر الزبانية، عساكر التعذيب بخلع ملابس الأخ عن جسمه فيفعلون.
خامساً: يبدأ في ضربه بالكرابيج على جميع أجزاء جسمه، وهو يصرخ ويستغيث.
سادساً: يوقفون الضرب ويُطلب من الأخ الاعتراف بالتهمة فيقول: كيف أعترف بشيء لم يحصل ولا علاقة لي به.
سابعاً: يؤمر بمعاودة تعذيبه، فتستعمل طرق أخرى من التعذيب غير الضرب، لأن جسمه لم يعد فيه مكان خال من آثار الكرابيج، فتستعمل وسائل أخرى كالإحراق بأعقاب السجائر والكي بالنار في أماكن حساسة من جسمه – أو يعلق منكساً مع ضربه وهو في هذا الوضع، أو يُضرب مرة أخرى حتى يلتهب جسمه كله وينزف من جميع أجزائه.. ثم يلقى وهو في هذا الالتهاب في زنزانة مجهزة تجهيزاً خاصاً ومملوءة بالماء المثلج بحيث يغمر الشخص حتى رقبته – وأحياناً يلجأون إلى أحط الوسائل بإحضار زوجته أو ابنته وأخوته، وتهديده بهتك أعراضهن أمامه، وكانوا يستخدمون وسائل أخرى لا تقل انحطاطاً ووحشية عن هذه الوسائل.
وهكذا تجرب معه من هذه الوسائل.. حتى يضطر إلى التوقيع على المحضر الذي عرضوه عليه من أول الأمر إنقاذاً لحياته وعرضه.
ثامناً: تضمد جراحه النازفة، ويلقى به في زنزانته.. حتى إذا توقف النزف واستطاع المشي على قدميه، اعتبروه صالحاً للتقديم إلى المحكمة.
تاسعاً: يُنادى عليه وعلى زملائه الذين مروا بكل ما مر به. وتكون المناداة ليلاً، فيقابلهم قائد السجن الحربي أو من ينيبه ممن هم على شاكلته، ويخبرهم بأنهم سيذهبون غداً إلى المحكمة في الصباح، ويحذرهم من أن ينكر أحد منهم شيئاً مما هو متهم به، أو يشكو أي نوع من التعذيب.. وإلا عادوا إلى التعذيب الأشد.
عاشراً: يذهب بهذه المجموعة إلى المحكمة التي لا يعرفون مكانها ولا زمانها ولا أشخاصها، فيجدون أنفسهم أمام حجرة داخل ثكنات الجيش ليس فيها أحد إلا ثلاثة ممن يسمون بالضباط الأحرار، فيشعر هؤلاء المتهمون أنهم – بوقوفهم أمام هؤلاء – لم يخرجوا عن حدود السجن الحربي، وأن هؤلاء ليسوا إلا فصلاً من المسرحية المجرمة الهازلة. ويسأل رئيس المحكمة الهازلة كل واحد من المتهمين: أهذا توقيعك؟ فيقول: نعم، فيحكم عليه بما طُلب منه. ثم يعودون إلى زنازينهم بالسجن الحربي كما كانوا.
أما في المحكمة: فيسأله القاضي: هل هذا توقيعك ؟
يقول: نعم، ولكنني لم أرتكب التهمة المكتوبة.
يقول: فلِمَ إذاً وقعت عليها ؟
يقول: سأريك لماذا وقعتُ عليها.. ويخلع ملابسه فيرى جميع الحاضرين ظهره مشرحاً بطريقة مثيرة.. ويقول لهم إن هذا الأثر تعذيب مضى عليه الآن خمسة أشهر.
فيتنبه "القاضي" إلى الترتيب الذي وضعه الإخوان في غفلة من "آلهتهم" الذين ظنوا أنهم قد أحاطوا بكل شيء علماً. فيوقف المحاكمة مدعياً تأجيلها لتحقيق ما زعمه المتهمون من التعذيب. ويأمر بعودة هؤلاء المتهمين إلى المعتقل.
أنا القانون:
وفي مساء ذلك اليوم حين يرخي سدوله، تفتح الزنازين كلها فجأة على غير المعتاد وبطريقة هستيرية. ويصدر أمر في مكبر الصوت بخروج المعتقلين جميعاً من زنازينهم والوقوف أمامها في (الطرقة) مطلين من السور الحديدي الذي أمامها... فخرجنا جميعاً وهالنا ما رأينا حول السارية العالية التي تتوسط فناء السجن، نار تتأجج وقد علا لهيبها حتى كان أعلى من سقف الدور الثالث في السجن، وحولها العساكر يمدونها بقطع ضخمة من جذوع الأشجار لتزداد تأججاً، فأحسسنا بأن شراً مستطيراً يقترب منا وأننا على وشك خطر داهم.. ورأينا بجانب السارية قائد السجن حمزة البسيوني بشاربه المتهدل الذي تصل ذؤابته إلى ما تحت ذقنه، وبشعر رأسه الشعث، وكرباجه تحت إبطه.. رأينا أمام حمزة البسيوني طابوراً من المعتقلين – هم الذين كانوا يحاكمون صباح هذا اليوم.. ثم انطلق حمزة يقول بصوت المغضب الحانق المتغطرس:
اسمعوا.. إن كنتم تريدون القانون فأنا القانون.. انظروا إلى هؤلاء الكلاب – أشار إلى الطابور الذي أمامه – لقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يشكوني .. ولكن هيهات.. لقد رجعوا إليَّ وها هم أولاء في قبضتي وتحت قدمي وسأسحقهم حتى لا يفكر أحد منكم أن يتجرأ ويفعل مثلما فعلوا.
أربعمائة كرباج:
وبعد أن هدد وتوعد وأفاض في تأليه نفسه ناسياً خالقه وبارئه، قرر تأديب هؤلاء الإخوة الكرام. فدعا بأولهم.. فتقدم إليه، فأمر بربطه في السارية. فربطوه ربطاً قاسياً .. وكان ظهره عارياً. ثم قرر بصوت جهوري هز السجن بمن فيه أنه (صرف) له أربعمائة كرباج، كما أنه قرر – شفاءً لنفسه – أنه سيقوم هو بنفسه بضربه!!.
واستل المغرور الكرباج من تحت إبطه، واعتدل منتفخاً، وأخذ يضرب الأخ بكل ما أوتي من عزم وقوة.. وقد سالت دموعنا من هول الضرب الذي لا يعرف صاحبه الرحمة.. ولكن كانت مفاجأة.
المفاجأة هي أن المغرور قبل أن يستكمل المائة الأولى رأيناه قد انهار، وكاد يسقط السوط من يده، في حين أن الأخ الكريم لم يصدر منه ما يشعرنا ولا يشعر من حوله من الزبانية بالألم، فلا صراخ ولا استغاثة ولا حتى مجرد تأوه.. بل ثبات وصمت.. وكل الذي سمعناه في هذه اللحظة قول المغرور له: يا ابن الكلب (بمد الكاف، للتعجب الشديد): كل ده وأنت لا تحس، دا أنا فرهت.
وأعطى المغرور السوط لأمين – وأمين هذا هو الآدمي الذي وكلت إليه الآلهة المغرورة تعذيب المعتقلين تعذيب الإذلال والإهانة والإشراف على التنكيل بهم داخل السجن الكبير، كما كانت مهمته تنفيذ ما تقرره هذه الآلهة من وسائل التعذيب لمن يحقق معهم في المكاتب، وهو شاب نحيل لا يجاوز الثلاثين ورتبته باشجاويش بأربعة أشرطه على ذراعه، وأمين هذا شخصية وإن كان ضئيلة القدر إلا أنها تستحق مع ذلك أن نتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله- وتسلم أمين السوط واستأنف ما انهار دونه سيده، ولكن بدت عليه علائم الانهيار وهو في أواسط المائة الثانية. ولقد رأيت بنفسي آثار التعذيب في ظهر أحد الإخوة الذين كشفوا ظهورهم في المحكمة، فقد استطاع الأخ نصار أن يتسلل إلى زنزانتنا، وكشف لنا عن ظهره، فرأينا آثار الضرب في ظهره بعد خمسة أشهر من شفائه، ومع ذلك فلا زالت آثار السياط متلاصقة زرقاء.
ومع أن مندوب لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة رأى بعينيه آثار التعذيب الوحشي.. فماذا فعل؟ لم يفعل شيئاً.. وهذه اللجان ما هي إلا أسماء سماها رؤساء أمريكا والدول الكبرى ليضحكوا بها على الناس ويوهموهم بوجود شيء هو في الحقيقة غير موجود.
جيوش البق:
ومن وسائل التعذيب التي ذكرها – أيضاً – محمود عبد الحليم في الجزء الثالث من المرجع السالف الذكر. حيث يحكي قائلاً: ولن أتعرض لآثار هذا الوضع الشاذ على الصحة، ولكني سأعرض على القارئ شيئاً بلوته بنفسي: في خلال هذه الفترة، وفي أواخر السنة التي استقر هذا الوضع عليها، فتحت حقيبة ملابسي وكانت حقيبة كبيرة من الجلد وأخرجت الملابس منها، وبدأت لأول مرة أنظر فيها، فهالني ما رأيت.
رأيت أسراباً من البق تجري هنا وهناك في جوانبها، فتعجبت لكثرتها، وأخذت أتصيدها في قطعة من الورق حتى اصطدت منها عدة مئات، ولكنها بعضها كان سريع الجري بحيث يسبق أصابعي ورأيته يدخل تحت الكرتون الذي يبطن الحقيبة من الداخل. فتتبعت الأفراد التي اختفت تحت البطانة، واضطررت إلى أن أفصل حروف البطانة التي كانت ملصقة بجدار الحقيبة، فذهلت لما رأيت.
رأيت البطانة شبه مفصولة عن الجلد وقد رصت رصاً تاماً بالبق – فاضطررت إلى نزع البطانة كلها حيث قتلت ما يزيد على بضعة آلاف من البق، غير الذي هرب دون أن أدركه، واضطررت إلى أن ألقي بالبطانة بعيداً. وظلت الحقيبة بغير بطانة حتى أفرج عني.. ولازلت أحتفظ بهذه الحقيبة ذكرى لهذه الأوضاع الشائنة التي كنا نعيشها.
منع العلاج:
كان بالسجن الحربي كسائر السجون، طبيب معهود إليه الإشراف على علاج المرضى من نزلاء هذا السجن، كما كان بالسجن الحربي بناء منعزل من دور واحد يسمى "الشفخانة" وهي كلمة تركية معناها بالعربية المستشفى. وبالرغم مما عليه هذه الشفخانة من تواضع في حجراتها ووسائل الراحة بها، فإنها كانت تعد متعة وترفاً حين تقاس بزنازين السجن الحربي.
وكانت هذه الشفخانة في أكثر الوقت الذي قضيناه بالسجن الحربي شبه محرَّمة على الإخوان مهما اشتد بهم المرض؛ لأنها كانت معدة لذوي الحظوة لدى حكام البلاد، فكان يقيم فيها أفراد من اليهود المعتقلين آنذاك.
كما أن العلاج كان محرماً على من يمرض من الإخوان، ومحظور على طبيب السجن أن يمد أي مريض منهم بدواء، في الوقت الذي حظروا فيه ورود أدوية على حساب المرضى من خارج السجن، لأن الطرود ممنوعة.
وهذا أسلوب لا يقف عند حد الإذلال والتنكيل، وإنما يتعدى ذلك إلى تأديبه بهذه الجموع الغفيرة من المعتقلين إلى الموت، وحينئذ لا يقال إن المشرفين على السجن قتلوهم، بل يقال إنهم مرضوا فماتوا شأن كل إنسان.
أما الأستاذ عمر التلمساني المرشد الثالث فيحكي ذكرياته في السجن الحربي قائلاً:
لقد فعل عبد الناصر مع الإخوان ما لا يستطيع عقل أن يتصوره، وكانوا يرغمون الابن على أن يشتم أباه وأن يبصق في وجهه. وأن يبادل شقيقه صفعاً ولكما والضباط من حولهما يضحكون. هل رأيت مواتاً في المشاعر إلى هذا الحد؟.. لقد صوروا سيدة من كرام السيدات عارية الصدر وأمامها زجاجة خمر وفي يدها كأس وسيجارة.. ترى لو أن أي قارئ ابتلى لا قدر الله – أن يرى ابنته أو أخته أو زوجته عارية يعتدي عليها عسكري أمام عينيه. ماذا يكون إحساسه؟ ألا يتمنى الموت والتقطيع إرباً إرباً قبل أن يمر بهذا البلاء المهين البشع..ثم بعد ذلك نجد في مصر من يثني على عبد الناصر!! ولو أنهم مروا بهذه الشناعات التي لا أتمناها لهم، لكان لهم رأي آخر... كذلك من الحق أن أقول إنني كنت من أقل الإخوان تعذيباً في السجن الحربي، فكل ما نالني أنهم أدخلوني الزنزانة رقم 24 في السجن الكبير، وجاء الحلاق ليحلق شعري، فأرخيت رأسي ليبدأ عمله.. فإذا بصفعة على قفاي وهو يقول: " اجعد على الأرض يا ابن الكلب!" وبعد أن تمت حلاقة رأسي وجدتهم يحضرون حبالاً غليظة لفوها حول جسمي من فخذي إلى صدري، ثم أوقفوني على كرسي وربطوا هذه الحبال بخطاف مدلي من السقف، وأزالوا الكرسي، فأصبحت معلقاً بين سقف الحجرة وأرضها، وانهالت الكرابيج والشتائم ولم أفتح فمي بآهة، لأن ذلك كان يسعدهم، وما كنت حريصاً على ذلك.. فلما حمى وقع السياط على مكان واحد، طلبت منهم أن يضربوا في أماكن متعددة.. وها عادت بي الذاكرة إلى العام 1933م حيث كنت أدرس لابني عابد وفي يدي مسطرة أضربه بها على فخذه كلما أخطأ، فلما آلمه الضرب في مكان واحد، رجاني باكياً أن أضربه في مكان آخر فرفضت.. تذكرت هذه الواقعة وإن كانت لا تهم القراء.. ولكنها زادتني يقيناً بأن الله لن يترك شيئاً بغير حساب وتأكدت من خاتمة هؤلاء الظالمين ولو بعد حين "( من كتاب ذكريات لا مذكرات لعمر التلمساني).
المبحث الثالث: الإخوان في ليمان طره
ليمان طره.. بناه الإنجليز عام 1886م كسجن على النظام الإنجليزي، بعد احتلالهم مصر بقليل، في ضاحية طره الملاصقة للقاهرة على كورنيش النيل. وهو أكبر سجون مصر على الإطلاق حتى بداية التسعينات من القرن العشرين... فبعد أن صدرت الأحكام في قضايا الإخوان في 1954/ 1955 تم توزيع الإخوان كالآتي:
1- الأشغال الشاقة المؤبدة ومعهم قيادات الإخوان.. إلى ليمان طره حيث تقطيع الأحجار من الجبال.. والبعض الآخر إلى ليمان أبي زعبل حيث تقطيع البازلت في محاجر البازلت في منطقة أبي زعبل.
2- شباب الإخوان من (إخوان الخمسات) وإخوان (العشرات) بعضهم إلى سجون بني سويف والمنيا وأسيوط وقنا والقناطر.
3- المعتقلون أغلبهم بقى في السجن الحربي عامين إلا قليلاً، منهم من نقل إلى سجن مصر وقليلون نقلوا إلى سجن الاستئناف والسجنان الأخيران بوسط القاهرة العاصمة، الأول كان في منطقة القلعة حتى عام (1972م) والآخر لازال في منطقة (باب الخلق) حتى الآن.
وذهب الإخوان إلى ليمان طره وهو عبارة عن أربعة عنابر، كل عنبر أربعة أدوار، ويسع العنبر لحوالي ألف سجين، بمعدل أربعة سجناء في كل زنزانة صغيرة (180سم عرضاً × 350سم طولاً).
أما أعضاء مكتب الإرشاد ومعهم فضيلة المرشد الثاني حسن الهضيبي قد أودعوا مع جميع الإخوان في عنبر رقم واحد.
ومن الطرائف التي حكاها لي بعض الإخوان عن الأستاذ حسن الهضيبي الذي كان راضياً تمام الرضا بقضاء الله:
كان هناك أخ رخيم الصوت يقوم قبل الفجر بحوالي ساعتين يرتل التواشيح ليوقظ الإخوان لصلاة الليل، وكان يقول كلاماً كثيراً بالدعاء التالي: " اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرجنا من بين أيديهم سالمين غانمين ". فناداه الأستاذ الهضيبي وقال له:
- إذا أهلك الله الظالمين بالظالمين فسوف يأتي ظالمون جدد وقد يكونون أشد قسوة وأشد تنكيلاً ممن كانوا قبلهم.. وهذه واحدة.
- والثانية: إذا أهلك الله الظالمين بالظالمين، فما فائدتنا نحن إذاً! سيكون لا لزوم لنا ولا عمل.
- والثالثة: سنة الله هي التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، وليست السنة أن يقف أهل الحق متفرجين على أهل الباطل كأنه ماتش (مباراة) كرة بين الأهلي والزمالك.
رد عليه قائلاً: إذاً فماذا أقول؟ قال الأستاذ الهضيبي، قل: " اللهم أهلك الظالمين بأنصار الحق المبين ".
ويحكي الإخوان أن المرشد حسن الهضيبي كان يقرأ يومياً عشرة أجزاء من القرآن الكريم ويختم كل ثلاثة أيام، وكان يعتب على الأخ محمد عاكف (المرشد السابع) أنه يقرأ ثلاثة أجزاء يومياً ويحضه على أن يختم كل ثلاثة أيام.
ومن الطرائف أيضاً أن المرحوم الأستاذ عمر التلمساني كان مع الأستاذ حسن الهضيبي في حجرة واحدة.. وكانت دورة المياه غير نظيفة وأحياناً يختلط الماء الطاهر في الأرض بالنجاسة، فيقوم الأستاذ عمر بعد الوضوء بغسل (الشبشب) الذي يلبسه. فيقول الأستاذ حسن الهضيبي إن آية الوضوء في سورة المائدة ورد بها غسل الرجلين فقال الله عز وجل: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .. ولم يرد فيها " وشباشبكم "، فليس في الآية غسل (الشباشب) يا أستاذ عمر!.
وكل مرشدي الإخوان حتى الآن (2005)، عدا الأستاذ محمد المأمون الهضيبي (المرشد السادس).. دخلوا ليمان طره.. وكسروا الحجارة في الجبل، وحمولها على أكتافهم.. ورغم ذلك ما فارقت البسمة شفاههم، ولسان حالهم يقول: إن موسى عليه السلام، عمل عشر سنين دأباً أجيراً عند صاحب "مدين" يرعى الغنم ويقوم بكل ما يُطلب من الأجير من تكليفات مهراً لزوجة من أهل الأرض. أفلا تستحق الحور العين مهراً أكبر ؟!!
وظل الإخوان يقطعون الحجارة في الجبل حوالي ستة أشهر كاملة.. إلى أن جاء قرار الحكومة بنفي جميع القيادات إلى الواحات الخارجة في سجن الصحراء.. وكانت الحكومة آنذاك تدبر عدة مؤامرات:
- مذبحة لقيادة الإخوان في الصحراء.
- مجزرة لشباب الإخوان في ليمان طره.
ونفذت الحكومة المجزرة الثانية، لكنها فشلت في تدبير الأولى.
هذا أبرز ما كان في تاريخ ليمان طره. كما أنه تعقد به امتحانات النقل والشهادات لجميع المسجونين والمعتقلين من كافة أنحاء الجمهورية. كذلك عاش الشهيدان سيد قطب ومحمد يوسف وبعض زملائهم من مرضى الإخوان تسع سنين في مستشفى ليمان طره. أذكر منهم الشهيد العابد الناسك الصابر الأخ عزت غريب الذي كان نموذجاً للصبر الجميل على قسوة المرض وقسوة السجن.. حتى مات في السجن من شدة المرض.
ومن ذكريات المرشد الرابع للإخوان المسلمين (الأستاذ محمد حامد أبو النصر) ما يحكيه عن قمة الرضا بقضاء الله مع السكينة التامة في ليمان طره بعد صدور هذه الأحكام القاسية، كتب (في كتابه: حقيقة الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر (ص 195 وما بعدها).يقول :" والسجون المصرية، مشهورة بقسوتها وشدتها على النزلاء، منذ أن أسسها الإنجليز في مصر، وظلت هكذا، في التضييق على النزيل وسوء المعاملة له وتطبيق أقصى اللوائح والقوانين التي لا يمكن لأي دولة متحضرة أن تطبقها على أي إنسان، مهما كانت قدرته، وهكذا دخلنا هذه السجون وهي على هذا الشكل، ولكن الله تبارك وتعالى الرحيم بعباده والمنقذ للمظلومين، جعل من هذا الضيق فرجاً، وكأنما قالت العناية الإلهية يا سجون كوني برداً وسلاماً على الإخوان المسلمين، وفي مدخل الليمان جُردنا من ملابسنا العادية، وقدم لنا الضابط المختص بدلاً سوداء من صنع السجن؛ كانت ممزقة لا تستر أكثر من عورة الإنسان، وكذلك أمر الضابط بخلع الأحذية، فدخلنا الليمان حفاة، ووزعنا في عنبر رقم واحد على زنازين متفرقة، كان حظي السعيد وجودي مع فضيلة المرشد والأستاذ عبد العزيز عطية، وسعدت بخدمتهما، والقيام على معاونتهما، وهما في هذه السن المتقدمة. ومن أكرم المشاهد التي رأيتها في هذه الليمان، هو استقبال النزلاء للإخوان، استقبالاً كريماً، وقد قدم نزلاء الليمان إلى الإخوان وفضيلة المرشد كساوى جديدة، بدلاً من ملابس السجن التي وزعت عليهم، وهي ممزقة ومهلهلة، وغير لائقة، فجزا الله هؤلاء النزلاء الكرام خير الجزاء، وكان أغلب الإخوان في فرقة تكسير الحجارة بالحبل، وقد قام الإخوان بمهمة تكسير الحجر خير قيام، وكان بعضهم يرتل القرآن، والبعض الآخر ينشد الأناشيد الحماسية، استعلاءً على الصعاب، واستهانة بهذه الأعمال الشاقة، فكانوا موضع التقدير والاحترام من النزلاء، ومن بعض الموظفين بالسجن.
ومما هو جدير بالذكر أنني كنت أشترك مع النزلاء في لعبة العصى (التحطيب) وكنت أضع على رأسي عمامة كبيرة كرجال الصعيد، وقد رآني فضيلة المرشد وأنا في هذه الحلقة، أتحرك يميناً وشمالاً معتزاً بهذه اللعبة التي لا يزاولها إلا الشجعان من الرجال، فما كان من فضيلة المرشد – رحمه الله – إلا أن طلب مني استحضار عمامة كبيرة تشبهاً بنزلاء السجن، وقد امتثلت لرغبته، وأخذ العمامة ووضعها على رأسه بطريقة خاصة كشفت عن حقيقته رجلاً مكافحاً صلباً يهزأ بالأحداث مهما كان ثقلها، ويلين بالحق في سبيل الحق، وهكذا كانت هذه الفترة الأولى في حياة السجون، وأذكر أن إدارة السجن قيدت الإخوان بقيد من حديد يربط طرفه بوسط الجسم، ويوضع طرفه الآخر في الأرجل، وذلك حتى لا يستطيع الأخ الجري أو الهرب، وهذا تقليد قديم يتبع مع عتاة المسجونين، وأكابر المجرمين "أ. هـ ".
أما الآن فلقد صار ليمان طره، ليس مجرد سجن فقط، ولكنه صار منطقة سجون بها عدة سجون مثل الليمان نفسه، وسجن مزرعة طره، وملحق مزرعة طره، وسجن المحكوم.. كلها عاش فيها الإخوان ونزلوا ضيوفاً عليها.... فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ آل عمران: 146 ].