الفصل الثالث: ابتلاءات الإخوان في عهد إبراهيم عبد الهادي
المبحث الأول: تلفيق القضايا للإخوان
قامت حكومة إبراهيم عبد الهادي بتلفيق ست قضايا لجماعة الإخوان المسلمين (عام 1949م) .. هذا بخلاف التعذيب البشع الذي تعرض له الإخوان لأول مرة في تاريخهم في معتقل سجن الاستئناف الذي يقع في قلب القاهرة، وهو من أسوأ المعتقلات التي عاش فيها الإخوان المسلمين قبل الثورة، وهذه القضايا هي:
{قضية القاضي أحمد الخازندار- قضية اغتيال النقراشي باشا- قضية محاولة نسف محكمة الاستئناف- قضية السيارة الجيب- قضية حامد جودة (رئيس مجلس النواب)- قضية الأوكار}.
وهذه القضايا جميعاً تمت بخطة واحدة، وهيأتها ظروف مشتركة، حتى كأنها تمت في ساعة واحدة، وعلى رأس هذه الظروف:
- حكومة ضعيفة تمثل الأقلية وليس الأغلبية، مدعومة من الاستعمار، رئيسها فظ غليظ القلب، مثل النقراشي، على صلة وثيقة بالأمريكان، على صلة بالروتاري.. هذا ما فعلته حكومة السعديين، التي توالى على رئاستها محمود فهمي النقراشي، وبعده إبراهيم عبد الهادي.. ولهما باع طويل في قضية الأسلحة الفاسدة، وفي إعلان الأحكام العرفية، وفي اغتيال حسن البنا.
خلق مناخ في غاية الاستفزاز والتوتر، خصوصاً مع الاتجاهات الدينية.
اعتقال المجاهدين ضد اليهود، وإرسال جيش بلا تدريب وبلا عقيدة قتالية لمحاربة اليهود.
تعذيب المعتقلين في السجون تعذيباً رهيباً كما سنرى في السطور القادمة.
هذا المناخ الاستفزازي.. عادة لا يتحمله بعض الشباب المتحمس، فهناك شريحة من الشباب لا تستطيع تحمل الاستفزاز أو الجو المتوتر فتفقد أعصابها.. ويختل توازنها فتندفع في تهور وحماسة دون مشورة او إذن، فيرتكبون حماقات ضد هؤلاء الزعماء.. وبعدها تحدث الطامة الكبرى.. هذا ما حدث في عام 1948م ثم تكرر بعد ذلك.
ولقد دفع النقراشي رأسه ثمناً لهذا الجو المتوتر.. وكان هذا هو المطلوب لمن يديرون مسرح العرائس.. النقراشي كان لاعباً في هذا المسرح أو عروساً من تلك العرائس وهو لا يدري.. ولم يكن يعلم أن رأسه لا ثمن لها في هذا المسرح حتى ولو كان رئيساً للوزارة.. فالمطلوب.. كل المطلوب هو سحق المجاهدين ضد اليهود وضد الاستعمار الإنجليزي، وليس لرأس النقراشي في هذا المخطط.. بل لعل أحد خطوات اللعبة أن يدفع النقراشي رأسه ثمناً لنجاح هذه اللعبة الشريرة.. وبعد هذا توالت الحوادث تترى.
- اغتيال الإمام حسن البنا. - حل جماعة الإخوان المسلمين. وقبل هذا المسلسل الشيطاني كانت هناك مقدمة من نفس النوع.
قصة الخازندار:
كان القاضي أحمد بك الخازندار قد صار حكماً قاسياً على اثنين من طلبة الثانوي من الإخوان المسلمين وهما حسين محمد عبد السميع، ومحمود نفيس حمدي.(انظر: الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ جـ2 – محمود عبد الحليم). هذان الطالبان اتهما بإلقاء قنبلة على نادي الضباط الإنجليز بالقاهرة في ليلة عيد الميلاد عام 1947م، ورغم عدم ثبوت التهمة عليهما إلا أنه حكم على كل منهما بثلاث سنوات سجناً وغرامة مائة جنيه، فاهتزت الأوساط الإخوانية لهذا النبأ.
وفي نفس الوقت حكم القاضي أحمد بك الخازندار في جريمة بشعة مروعة وقعت في الإسكندرية وهزت أرجاء البلاد وسميت بقضية (سفاح الإسكندرية) وهو السفاح (حسن قناوي).. كان يستدرج ضحاياه ويمارس معهم الشذوذ ثم يقتل الضحية.. وقد تكرر هذا منه عدة مرات. وما دار في جلسات المحاكمة من شرح لهذه الجرائم يزكم الأنوف، ويؤذي المشاعر ورغم ثبوت الجرائم كان الحكم مخففاً جداً وصادماً لمشاعر المصريين، فلقد حكم عليه بسبع سنوات فقط لدرجة أن هذا السفاح تلقي هذا الحكم بالابتسام والسرور.
وهنا اندفع صديقان من أصدقاء شباب الإخوان المسجونين ظلماً وعدواناً من محكمة أحمد بك الخازندار.. وأطلقا النار على هذا القاضي.. بدافع شخصي منهما وليس بتوجيه من أحد، وحكمت عليهما المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة.
مقتل النقراشي:
قام عبد المجيد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري، باغتيال النقراشي.. ورغم أن هذا السلوك فردي، إلا أنه تم اتهام أربعة آخرين بالتحريض وتسعة عشر بالاتفاق الجنائي.. والخمسة الأوائل من بينهم سيد سابق – شيخ أزهري – 24 سنة ، عبد المجيد حسن.أما التسعة عشرة الآخرون فمنهم: مصطفى مشهور مشهور – 27 سنة – المرشد الخامس للإخوان المسلمين، عبد الرحمن السندي – موظف بوزارة الزراعة – 32 سنة.وأُعدم المتهم أول عبد المجيد حسن وصدر ضد الباقين أحكام مختلفة.
- قضية نسف محكمة الاستئناف:
وقعت هذه المحاولة في إطار المناخ الاستفزازي، والمتهم فيها الأخ شفيق إبراهيم أنس (22سنة) الذي ضاق صدره، ونفد صبره لما كان يجري بين جدران هذه المحكمة من تزييف وتلفيق وإكراه.. ثم تعذيب بشع داخل جدران المحكمة على مرأى ومسمع من القضاة آنذاك.. ولكن أحداً لم يصب والحمد لله وفشلت المحاولة.. ورغم ذلك حُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
- قضية السيارة الجيب:
تم ضبط هذه السيارة في 21/11/1948م في دائرة قسم الوايلي بالقاهرة وبها أوراق كثيرة ومضبوطات.. وقدم فيها 32 فرداً من جماعة الإخوان المسلمين إلى المحاكمة،معظمهم ذكر اسمه في قضية مقتل النقراشي والذين تحملوا جميع القضايا في تلك الفترة العصيبة في أول محنة جماعية للجماعة.
أما الآخرون الذين أدرجت أسماؤهم معهم في قضية السيارة الجيب فهم16 شخص .
- قضية حامد جودة:
وقع الحادث في 6/5/1949م بعد اغتيال المرشد العام حسن البنا بثلاثة شهور وتكهرب الجو في مصر كلها، وحلت الجماعة واعتقل الآلاف من القيادات والعاملين في الإخوان. .ولم يعد هناك خارج السجون سوى شباب ليس بينهم رابط قوي، ولا خبير مجرب في ظل مناخ استفزازي وشيوع قضية العسكري الأسود في عصر إبراهيم عبد الهادي خليفة النقراشي في رئاسة الوزارة ورئاسة حزب السعديين آنذاك. ومرت سيارة حامد جودة رئيس مجلس النواب وظنوا أنها سيارة إبراهيم عبد الهادي، فألقى أحد الشباب قنبلة، ولكنها لم تصب أحداً بسوء، وأخطأت الهدف، ونجا حامد جودة الذي كان في السيارة، وتم اتهام عشرة من الإخوان .
تم ضم هذه القضية مع القضية التي بعدها وتسمى قضية الأوكار.
- قضية الأوكار:
تم اتهام خمسين فرداً من جماعة الإخوان المسلمين – الخطرين في نظر الحكومة – في هذه القضية باتهامات مختلفة.. وقبضوا عليهم في منازلهم في كل من روض الفرج – شارع شبرا – شارع السندوبي – روض الفرج – الجيزة. وسموا هذه المنازل أوكار للإخوان المسلمين.. ومن هؤلاء الخمسين أفلت ثلاثة منهم وتمكنوا من الهرب إلى ليبيا وهم (يوسف علي يوسف، عز الدين إبراهيم، ومحمد جلال سعدة) أما محمود يونس الشربيني فقبضوا عليه في الإسكندرية بعد اختفائه شهراً بها ولم يتمكن من الذهاب إلى ليبيا.
وأثناء القبض عليه قتلت الحكومة الأخ الشهيد أحمد شرف الدين بمنزله بروض الفرج .. ولم يحاسبها أحد!!
وهؤلاء الخمسون المتهمون منهم العشرة السابق ذركهم في قضية حامد جودة، أما الأربعون الباقون فقد ذكرهم الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ جـ2 ص 163.
المبحث الثاني: مشاهد من التعذيب في تلك الفترة
ذاق الإخوان في عهد إبراهيم عبدالهادي باشا رئيس الوزراء من التعذيب والتنكيل ما تشيب من هوله الولدان على مدى قرابة عامين ونصف العام.
ولقد أفاض الأخ محمود عبد الحليم في الجزء الثاني من كتابه " الإخوان المسلمون – أحداث صنعت التاريخ) في شرح صنوف التعذيب التي تعرض لها الإخوان في تلك الفترة، وننقل هنا مقتطفات منها(انظر: محمود عبد الحليم – الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ)
المتهم محمد مالك:
في جلسة 29/8/1949م طلب المتهم محمد مالك من رئيس المحكمة السماح له بالكلام فقال: إنه اعتقل في الإسكندرية، جاءوا به موثق اليدين والرجلين إلى المحافظة، فقال له الأستاذ عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية " أنا عمار عدو الإخوان " ثم أمر رجال البوليس بتعذيبه. فانهالوا عليه بالضرب المبرح – ولما جيء به إلى القاهرة اجتمع عليه ضباط القلم السياسي ورفعوا رجليه بعد ربطهما، وانهالوا عليه ضرباً في كل جسده، وكانوا يدوسون على وجهه بأحذيتهم، ثم شفعوا ذلك بلفحات من الكرابيج، وكان يغمى عليه، ويود ألا يخرج من إغمائه حتى لا يشعر بهذا العذاب.
وخيروه بين رواية عبد المجيد وبين التعذيب، وأعدوا له حجرة تعذيب... ولما أدركوا أنه لم يعد يستطيع المشي أجبروه على أن يجري، ولما لم يستطيع الوقوف أرغموه أن يقف ساعات، وكان يترك بالأسابيع دون أن يغتسل أو يبدل ملابسه.
وهنا وقفت والدة مالك وفي يدها رباط شاش وقالت إن جسد ابنها كان كله جروح، فأسكتها رئيس المحكمة.
وكان مالك يروي بتأثر وحنق، ويقول إنه عاجز عن تصور ما كان يعانيه من العذاب حتى تلفت أعصابه، وكان يضرب بالحديد لعله ينطق، وكان البوليس يوجه إليه كلمات مقذعة خبيثة، واستعانوا بصغار إخوته ليرغموه على الاعتراف.
فسأله الرئيس: ولماذا لم تخطر النيابة وقد حقق معك أكثر من مرة؟
مالك: بلّغت إسماعيل عوض بك رئيس النيابة بلا جدوى، كما بلّغت محمد عبد السلام بك.
محمد عبد السلام: عندما بلغني المتهم أحلته على الكشف الطبي.
دكتور عزيز فهمي: لقد عذب أيضاً بعد الكشف الطبي.
وقال مالك إنه لم ينج من التعذيب حتى في الشوارع أثناء ذهابه للتحقيق.
المتهم محمد نايل:
وفي نفس الجلسة قال المتهم محمد نايل أمام المحكمة إنه كان يُضرب على قفاه من ضباط القلم السياسي وهو جالس في الغرفة المجاورة للمحقق، وأنه أُخذ بحجة التحقيق معه في النيابة واقتيد إلى قسم عابدين، حيث هدده رجال القلم السياسي بتشريح جسمه إذا لم يعترف.
وقال إنه بعد أن نال ضرباً مبرحاً أخذ مكبلاً إلى غرفة الحكمدار، فوجد فيها إبراهيم عبد الهادي باشا، فدهش لوجوده.. ويظهر أن رئيس الوزراء لاحظ تلك النظرة فقال له: " بتبص لي كده ليه ؟ أنت عندك حاجة يا واد؟" ثم أمر بإخراجه حيث ضرب بالفلقة.
وقال المتهم إن لديه شاهداً على هذا التعذيب وهو أمان الله خان.
الرئيس: من ملوك أفغانستان؟
نايل: فعلاً من الأسرة المالكة الأفغانية، وكانت له قضية يعرفها القلم السياسي.
صمت مخجل:
وقال إن هناك أشياء أخرى يخجل من ذكرها أمام الناس.
وفي الجلسة التالية المنعقدة يوم 3/9/1949 بدأ الحديث الدكتور عزيز فهمي المحامي فقال: إن هذه المحكمة تفضلت في الجلسة السابقة بالاستماع إلى أقوال المتهمين مالك ونايل، وقد اتضح من هذه الأقوال أن بعض المتهمين كان هدفاً للتعذيب لحملهم على الإفضاء باعترافات معينة. وقد رأت المحكمة آثار هذا التعذيب على أجسامهم، ووصف الرئيس هذه الآثار بأنها لا تزول مع الزمن – واستطرد الدكتور عزيز فقال: ولم يكن التعذيب جسمانياً فحسب، بل كان البعض هدفاً لجرائم من نوع آخر يمس أعراض المتهمين وأعراض أخواتهم وأمهاتهم وزوجاتهم، كما أشار إلى ذلك كل من مالك ونايل وأمسكا اللسان عنها استحياء.
ثم طلب الدكتور عزيز من المحكمة أن تسمع أقوال المتهمين فيما وقع عليهم من اعتداءات تمس الأعراض وتحقيقها لمحاكمة مرتكبيها طبقاً للقانون.
ودارت مناقشة بين الدكتور عزيز في ذلك وبين رئيس المحكمة رفض في نهايتها رئيس المحكمه طلبه بالتحقيق في التعذيب.
المتهم عبد الفتاح ثروت شاهداً:
وفي خلال جلسة 3/9 هذه استمعت المحكمة إلى ثلاثة من المتهمين في قضايا السيارة الجيب – بناء على رأي رئيس المحكمة – كشهود في هذه القضية، ومن هؤلاء الشهود عبد الفتاح ثروت الذي قرر أنه راصد جوي.. وما إن سألته المحكمة عن آثار التعذيب في قدميه.. حتى قال إنه ارتكب معه أعمال منافية للآداب.
الرئيس: بس.. بس.
الدكتور عزيز: نريد أن نسمع الشاهد.
واستأنف الشاهد كلامه فقال: إنه كان يُعذب بالضرب في سجن الأجانب والمحافظة، وكان يجبرونه في حجرة التعذيب على الوقوف في الصباح إلى المساء حتى لا ينام. كما قبضوا على أقاربهم ونكلوا بهم.
أصبحت محطماً:
واستطرد يقول: لا يمكن أن أصور الآلام التي قاسيتها.. لقد كنت في عملي الحكومي نشيطاً، أما الآن فقد تحطمت أعصابي، وأصبحت فريسة للنوبات والاضطرابات، ولم يقدم لي طبيب السجن شيئاً.. وأنا أتناول أدوية من الخارج.
- تعذيب أمام النائب العام:
وقال: لقد كان البوليس السياسي يحضرون التحقيق ويهدونني بالتعذيب، وذلك أمام سعادة محمود منصور باشا النائب العام السابق، وقد شكوت له فقال لي: " لا تتعب نفسك بالشكوى فنحن نعرف والحكومة تعرف وسوف نشرحك ".
وأمام إبراهيم عبد الهادي!!
واستأنف يقول: وقاموا بضربي يوماً ثلاث مرات في المحافظة ومرة في النيابة، وأخذوني لإبراهيم عبد الهادي باشا فقال لي " تكلم أحسن لك علشان تطلع كما طلع غيرك " – وقال الشاهد: إنه لانهيار أعصابه وقع على الأوراق لا يدري ما فيها.
وأجاب الشاهد على سؤال لغانم بك المحامي بأنه دخل على إبراهيم عبد الهادي باشا وملابسه ملوثة بالدماء فقال له: " يا ولد أنت عارف حتتكلم إزاي ولازم تقول كل حاجة " ثم أُخرج بعدها إلى غرفة التعذيب. وقال إنهم كانوا يفصحون له بأنهم يعرفون كل شيء عن عائلته، فقالوا له إن أخته مريضة بالسكر وإنهم شردوا والده.. وقال إن البوليس طلب منه أن يذكر كلاماً عن مالك وأن يتهمه بالاشتراك في الحادث.
وأجاب على سؤال آخر لغنام بك بأنه قابل إبراهيم عبد الهادي باشا ثلاث سنوات مرات. وكان البوليس يهمس في أذنه قبل المقابلة أن الباشا في يده كل شيء وكان الباشا يلح عليه أن يتكلم.
ثم قال الأستاذ علي منصور: والدليل على ذلك أيضاً أنه قد توفي بين أيدي الجلادين أحد الشقيقين أحمد عبد النبي أو محمد عبد النبي، وذلك بدار محافظة الإسكندرية حيث تولت الإدارة دفنه في مكان مجهول ثم أخطرت أهله.
واستطرد يقول: هذه حقائق مقتطفة من كثير مما ثبت لدي ولا أستطيع بيانه خوفاً على مراكز من يعرفني بها. وفي هذه الكفاية أضعه أمام الضمائر الحية لحضرات المستشارين والضباط العظام لتقديرها.
التعذيب في قضية السيارة الجيب
سعد جبر – ضربوني بالحذاء في وجهي:
قال إنه استأجر فيلا الزيتون، ولم تكن الأجهزة التي بها هي لمحطة إذاعة كما أذيع، وإنما هي أدوات لمشروع تجاري خاص بتسجيل الاسطوانات وقال إنه اعتدى عليه بالضرب حتى منتصف الليل على يد الصاغين (الرائدين) توفيق السعيد وعبد المجيد العشري، والجاويش مصطفى التركي الذي كان يضربه بالحذاء على وجهه.
مصطفى كامل – عُلقت كالذبيحة وشووني بالسجائر أمام عبد الهادي:
قرر أن كل ما نُسب إليه في التحقيقات هو من إملاء اللواء طلعت بك بعد تعذيبه- وقال: علقوني في شباك القسم زي الذبيحة، ولما صرخت شووني بالسجائر المولعة. وجاء إبراهيم عبد الهادي باشا فاستغيث به ولكنه لم يعبأ بي، وأشار علي ضابط ضخم معه لمواصلة تعذيبي قائلاً: شرحوه.
كما أنهم لم يسمحوا لي بالنوم أبداً. وقد حاصرني ضابطان كانا يبادران بصفعي كلما همت عيني بالنوم، وجعلوني أوقع على أوراق وأنا كالجثة الهامدة، وقد استغيث بحضرة المحقق محمد عبد السلام بك فلم يعبأ بي وتخلى عني.
- عبد الفتاح ثروت مرة أخرى:
ولما كانت حالته لا تمكنه من أداء الشهادة واقفا، فقد سمحت له المحكمة بالجلوس على مقعد. وقد قرر أنه لم يعترف بأي شيء في التحقيق وأن التعذيب جعله فاقد الشعور.
وروى بصوت مرتعش ضعيف صنوف التعذيب فقال: إن اللواء طلعت بك هدده بالتشريح إذا لم يعترف قائلاً: إن البلد في أحكام عسكرية. ثم قال: وأخذوني إلى غرفة الضابطين العشري وفاروق كمال وجردوني من ملابسي ونزلوا في ضربي من تسعة مساء إلى أربعة صباحاً.
ولقد قسموا أنفسهم أربع مجموعات، كل مجموعة من 12 عسكري وضابط، ووضعوا رجلي في الفلكة حتى أن الفلكة انكسرت، ثم استعملوا كرابيج الهجانة.. ولما أفقت من إغمائي قالي لي طلعت بك: هذه هي الجولة الأولى والبقية تأتي.
وأخذوني إلى إبراهيم عبد الهادي باشا فقال لي: أنا عندي أمر إني أموتك.. ثم أمر بموالاة تعذيبي، وكان التعذيب على أربع درجات: بالضرب بالعصى والكرابيج ثم الكي بالنيران، وأحضروا (سيخ حديدي محمي) ولكن الضابط محمود طلعت طلب من الضباط أن يكفوا عني قائلاً: ده صاحبي وسعترف بكل شيء.. ثم نمت على الأسفلت فكانوا يطرقون الباب حتى يهرب النوم من عيني. وما كانوا في حاجة إلى ذلك، لأنني لم أكن أستطيع الرقاد على أي جزء من جسمي المشوي كله.
اعتداء منكر:
ثم طالبوني بالاعتراف وهددوني إن لم أفعل أن يعتدوا علي اعتداءَ منكرا.. وفعلاً تقدم واحد يريد الاعتداء علي.. فقلت له: أنا أعرف أنني لا أستطيع مقاومتك. وأنت يمكنك أن تفعل معي هذه الجريمة. ويمكنك أن تنجو من عقاب القانون.. ولكني أريد أن أقول لك قبل أن تبدأ: إن الله لن يترك هذه الجريمة بلا حساب.. فابتعد عني. واستمر تعذيبي. وتلفت أعصابي.. وكنت لما أذهب إلى إسماعيل عوض رئيس النيابة وأشكو له يضرب الجرس ويأتي الحرس فيقول لهم: هاتوه لي أخرس خالص.
وجاءني إبراهيم عبد الهادي باشا أربع مرات وقال لي أنا أبهدلك وأبهدل أهلك، وأنا الحاكم العسكري.
وبعد سؤاله في المحكمة ارتجف بدنه وحملق في الهواء، وأصيب بنوبة إغمائية وجعل يرسل شهيقاً عصبياً مؤلماً، أبكى معظم الحاضرين في القاعة.. فحملوه إلى خارج قاعدة المحكمة.
التعذيب في قضية الأوكار
- في 6/11/1949م أثبت الطبيب أن أحد المتهمين نُزعت أظافره.
- فقد المتهم الرابع (فتحي محمد علام) سمعه نتيجة التعذيب.
- وأفاد المتهم يوسف عبد المعطي أن ثلاثة من رجال البوليس السياسي أقاموا في مسكنه مع أمه وأخته – بعد اعتقاله واعتقال والده – وقد أرسلت أخته برقية إلى النائب العام تطالب بإخراج البوليس من الشقة، ولكن عهد الإرهاب لم يستجب.
- رفض النائب العام(!!) محمود منصور باشا إثبات إصابات تعذيب المتهم محمد نايل الطالب بكلية الهندسة.
والدة المتهم تربط بقيد واحد مع إحدى العاهرات:
وقبل أن ينصرف هذا الضابط وقف المتهم صالح الجنايني وأشار إليه قائلاً: إن هذا الضابط أحضرني إلى بندر الجيزة في 20 مايو 1949م وهددني بوجود مظروف سيؤدي بي إلى حبل المشنقة إذا لم أعترف. فلما أخبرته بأني لا أعرف شيئاً، أمر الجنود بإحضار والدتي – وكان قد استحضرها من بلدتي بمحافظة الشرقية ووضعت في الحجز – ولكن لم أصدق هذا حتى تبينت لي الحقيقة المرة، ووجدت العسكري يدخلها علينا وهي مربوطة بقيد حديدي واحد مع إحدى العاهرات وكانت العاهرة عارية الثياب، فأشار إليها الضابط وقال لي: سوف نجعل والدتك كهذه العاهرة إذا لم تتكلم.
واستطرد المتهم يقول: ثم أحضروا أخي الصغير – وهو كفيف البصر – ومعه ابن عمي – وهو مريض بالصرع – والدم ينزف منهما. وقال لي الضابط: انظر بعينيك لتعرف مصيرك ومصير أهلك، ثم أخرجوني ودخلت على المحقق الذي أعرض عني وانشغل بمكالمة تليفونية. ثم دخل هذا الضابط وأخرجني حيث نصبت لي فلقة من نوع جديد ابتكروه لي.. وتوالى التعذيب.
وسُئل الضابط عن صحة هذه الوقائع، فأنكرها.
جريمة خلقية:
وقال المتهم عبد الرحمن عثمان: يوم 11 يوليو ذهبت برفقة الملازم أول فاروق كامل، وظللت ست ساعات في المحافظة، واعتدى عليَّ الصاغ العشري بالضرب ومعه عسكري أظن أنه رقى لدرجة الصول ويدعى حسب الله.. وما كان الضرب والتعذيب يحملاني على الاعتراف وإنما التهديد بجريمة خلقة. وقد لمست في ذلك الوقت أن مبادئ القانون قد ديست.
وفي 13 يوليو استدعاني المحقق محمد عبد السلام بك فظننته حصناً لي، ولكني وجدته عونًا لرجال السلطة التنفيذية عليَّ.
اتهام عبد الهادي بقتل حسن البنا:
وفي 14 يوليو حضر الملازم كمال الرازي وأخرجني من السجن لتوصيلي إلى نيابة الاستئناف. ولكنني فوجئت بالصاغ محمد علي صالح والملازم فاروق كامل يصحباني إلى محطة القاهرة. وصعدت إلى القطار الذاهب إلى الإسكندرية. وبمجرد تحرك القطار أُدخلت صالوناً وجدت فيه إبراهيم عبد الهادي باشا – وأحب أن أسجل أن هذه المقابلة لم تكن كما زعم دولة الباشا بخصوص أحمد محمود يوسف ابن خالي، وإنما كانت بخصوص التحقيقات نفسها وكان مع عبد الهادي باشا محاضر التحقيقات.
وأخذ الباشا يسألني عدة أسئلة حتى يئس مني؛ لأني لم أجبه على شيء – فقال لي: ما رأيك في شعور الإخوان بعد قتل مرشدهم؟ فقلت: إن شعورهم ينحصر في أن دولتك قاتل حسن البنا. فذهل الباشا، وكان لهذا الرد وقع أليم في نفسه، وطلب مني الإفصاح عن هذا القول فقلت له: إننا نعلم جميعاً أن الأنوار أمام جمعية الشبان المسلمين أطفئت، وارتكب الحادث بسيارة محمود بك عبد المجيد رئيس المباحث الجنائية.. فأطرق الباشا مليًا، وطلب لي مشروباً "ساقع" ولكنني رفضت، لأني كنت صائماً في رمضان فأذن لي بالخروج فخرجت.
دماء على الحائط
ثم قال: وقد فاتني أن أذكر حينما دخلت الحجرة رقم (12) في سجن الأجانب، وجدت على الحائط آثار دماء مشاراً إليها بقوس ومكتوباً تحتها عبارات " لقد مزقوني إرباً إربا، وسعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، ولا سلطان لأحد على قلبي " ومذيلة بإمضاء إسماعيل علي – وأظن أن آثار هذه الدماء موجودة حتى الآن.
العسكري الأسود
كل ما مضى شيء.. وجريمة العسكري الأسود شيء آخر تماماً.. وتطور تاريخي في التعذيب، ذلك العسكري الأسود الذي كان يستخدم للاعتداء الجنسي الرهيب على المتهمين الذين لا يعترفون على أنفسهم أو على غيرهم اعترافات باطلة.
كتب الأستاذ محمود عبد الحليم قائلاً:
هو أحد معالم ذلك العهد الدنس، وهو عار لا يمحى مهما طال الزمن. وهو الشخص الدنيء الذي رضى لنفسه أن يكون آلة في يد البوليس السياسي في تهديد المتهمين بهتم عرضهم لحملهم على الاعتراف بما يريدون.
وقد ذكره المتهمون أمام المحاكم التي حاكمتهم، ولكن الأدلة القانونية واسمه الحقيقي ومكان وجوده وقت المحاكمات، لم يكن متوافراً.. ولكن جريدة أسبوعية كانت تصدر في ذلك الوقت وكانت ذات نشاط صحفي مبتكر تسمى جريدة "الجمهور المصري" تبنت هذا الموضوع، وحملت على عاتقها كشف سر هذا الشخص الدنيء.. وجازف اثنان من محرريها هما الأستاذان إبراهيم البعثي وسعد زغلول وقاما برحلة يكتنفها الخطر، بعد أن أثبتت تحرياتهما أن هذا العسكري قد سُرِّح من البوليس وأنه مقيم في بلدته الأصلية "إدفو".
استطاع هذان الصحفيان – بطريقتهما الخاصة – أن يلتقيا العسكري الأسود في بلدته، ونشرت جريدة "الجمهور المصري" اسم هذا الشخص ومحل إقامته.. وبناء على ما نشر في هذه الجريدة أمرت المحكمة النيابة بإحضاره لسماع أقواله باعتباره شاهداً.
وفي جلسة 10/5/1951 حضر هذا الشخص واسمه " أمين محمد محمود مرسي النقيب" في سن دون الثلاثين، وتمسك بالإنكار التام المطلق.. ولكن الدفاع كان قد علم بأن طريقة إحضاره من بلدته وحضوره إلى النيابة قد تخللتها مناورات خطيرة قام بها البوليس السياسي في مصر.
وقد واجهه الدفاع بما أحرجه في كيفية تسفيره من بلدته إلى القاهرة، وفي نزوله أول ما حضر عند ضابط من ضباط القلم السياسي اسمه مرتضى.. مع أنه كان يجب أن يسلم نفسه مباشرة إلى النيابة.
وطلب الدفاع من المحكمة أن تسمع أقوال سعد زغلول الصحفي في جريدة " الجمهور المصري " فكان الموجود زميله بالجريدة الأستاذ البعثي، فسمعت المحكمة أقواله على سبيل الاستدلال، قال: " إن زميلي سعد زغلول محاصر الآن بمنزل صديق له هو عبد الرحيم صدقي شقيق اليوزباشي مصطفى كمال صدقي. وقد عمد رجال البوليس إلى محاصرة زميلي حتى لا يحضر الجلسة، ومنعوه من الخروج من المنزل بحجة أن أشقاء العسكري الأسود ينوون قتله. ولازال أربعة من رجال البوليس السياسي يحاصرون المنزل حتى الآن.
وكانت المحكمة قد سألت العسكري الأسود عن تاريخه في البوليس وعن كيفية لقائه بالأستاذين البعثي وزغلول وعن كيفية حضوره، وأجاب إجابات كان البوليس قد لقنها له قبل مثوله أمام المحكمة.
المحكمة: هل ما ذكره الشاهد الآن هو ما حصل في إدفو ؟
البعثي: لا، هناك اختلافات كثيرة في أقواله. أولاً، هذا العسكري ظل في المحافظة سنة لا ستة أشهر كما يقولون، ثم إنه لم يكن يعرف شيئاً عن القضية لدرجة أن أهالي بلدته جميعاً لا يعرفون أن اسمه هو ما نشر في الجرائد؛ لأنه مشهور باسم أمين النقيب. وقد اهتديت في البلدة على الشيخ ناظر المدرسة، لعلاقة سابقة بيننا، ولما سألتهم عن أمين قال عندنا أمين النقيب. فكلفته بإحضاره في منزل أحد أقارب الشيخ. ولما حضر كنت متحيراً كيف أبدأ الكلام معه. وفجأة انطلق زميلي سعد زغلول وقال له: يا أمين إن حيدر باشا في حاجة إليك؛ لأنك رجل شهم وهو في حاجة إلى رجل صعيدي زيك.
اعترف بالتعذيب:
ثم تحول الكلام إلى رجال القلم السياسي، ووجدت منه أنه يميل إلى ضُباط القلم السياسي ويعرف عنهم الكثير. حتى إنه يعرف أن الصاغ عشري نُقل إلى البحيرة. ولما سألته عمن كان معهم أثناء تعذيب الإخوان ذكر اسم مصطفى التركي (عسكري آخر من الفيوم) وإنه هو وذلك العسكري كانا مكلفين بارتكاب جرائم تعذيب الإخوان.
ولما توغلنا في الحديث ارتعش وبدت عليه علامات الاضطراب، والتفت إليَّ وقال: أنا عرفك مش كده؟ فقلت له أيوه أنا كنت أتردد على المحافظة أحياناً ومن هذا الوقت بدأ يتخوف ويتهرب من الحديث.
وهنا ارتفع صوت العسكري ونظر إلى الأستاذ البعثي وقال: أنا خفت منك؟ أنت يا سلام.. أمال كيف وصلتك المحطة وأنا خايف منك؟
استأنف الأستاذ البعثي كلامه فقال: أنا سألت شخصاً في البلد عن أمين فقال لي: إن أمين هذا عفريت، ده ينط على البيوت. وأي واحدة تعجبه في البلد ينط عليها بالليل الساعة 12 منتصف الليل.
واستطرد يقول: أنا فهمت أثناء حديثي مع العسكري في بلدته أنه يكره الإخوان جداً وحاقد عليهم لأقصى حدود الحقد، وكان يسألني أثناء الحديث هل أحد من الإخوان يتهمني في القضية، أنا على كل حال كنت عبد المأمور، أنا مالي، وإحنا في الأول خالص لم نفعل شيء مع الإخوان وإنما في الآخر الحقيقة نفذنا الأوامر، وعملنا فيهم كثير خالص.
وبعد قضاء هذه الفترة معه في البلدة طلب منا بإلحاح أن ننام عنده ليلة في البلدة، ولكنا تخوفنا جداً وآثرنا السفر، وودعنا هو حتى مغادرة القطار. وعند قيام القطار من المحطة نظر إليَّ وقال: إذا جرى لي حاجة تبقى أنت المسئول.. وقد نفدنا بعمرنا.
كانت هذه هي المغامرة التي قام بها الصحفيان للتعرف على العسكري الأسود ومثوله أمام المحكمة، ولقد أحاطته الحكومة بعناية ورعاية كاملة، وبذلك أقصى جهدها لكي لا تنكشف هذه الفضائح أمام الناس. ونسوا أن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6].
تلك صفحات من تاريخ السجون قبل ثورة يوليو 1952م وكانت السجون كلها في يد بوليس القلم السياسي.. الذي استخدم كل سجون ومعتقلات مصلحة السجون.. أما بعد الثورة فقد انتقلت الأمور إلى العسكر الذين كانت لهم سجون أخرى أبرزها السجن الحربي.